المُنظِّرون التمزيغيون الذين انتدبوا أنفسهم للدفاع عما يسمى “القضية الأمازيغية”، ووقَّفوا جهودهم وأوقاتهم لاستدرار عطف وميول الملإ نحوها، يُقدِّرون تماما تلك المغالطات المعرفية والمنهجية، التي تحكم آليات تواصلهم مع القواعد والنخب، وترسم معالم خطابهم الأيديولوجي والسياسي الموجه للصفوة والجماهير، ويدركون بوعي عميق أن توظيف واستثمار الثغرات والمسام التي تعتور الساحة الثقافية والاجتماعية المغربية؛ هو سبيل موطأ لإشاعة وتسويق هذه المغالطات، بل وتقديمها على أنها نظريات مُطردة، وحقائق لا تقبل النقض.
لقد استطاع هذا التيار في السنوات الأخيرة، خاصة في الساحات الجامعية، والتكثلات الجمعوية، أن يلملم شعثه، وينظم صفوفه، ويعمل على بث خطاب عاطفي مُسَيَّس، يتخذ من المظلومية التاريخية، والهضم السياسي، نهجا لصناعة المشروعية، وخلق العدالة، فتحلق حول موائده، مريدون وأتباع، أطربتهم تلك الخطابات المدثرة بالأصالة والعلمية والواقعية، فطاوعوها عنوة، وأسلسوا لها القياد دون أن يعوا خطورة أبعادها، وغِبَّ دلالاتها، حتى صاروا بعد الترويض والتدجين، من حماة الحوزة، وحمَلة اللواء، يجهرون بالولاء الأعمى والبيعة المطلقة لأعلام هذا التيار، إلى درجة التبلّد والاستحكام والاستصنام.
فتفرّخ الواقع الثقافي المغربي، بشباب متمزّغ، ضيق العَطن، محدود الأفق، كافر بنسبية المعارف، وجاحد لاحتمالية الفهوم، لا يرمق إلا الأسود والأبيض، ولا يرى إلا ما أُوِري، يؤمن فقط بتعاليم السادة، وترانيم الزعماء، ويأخذها على عِلاّتها، دون أن يطيق فحص علميتها، أو يستوثق من متانة أصولها، لأنه يعيش استيلابا فكريا، وارتهانا إراديا، أفقده القدرة على إعمال عقله، وإمعان نظره في جوهر القضايا، وعمق الإشكالات، ويكتفي بمغازلة نفسه، ومخادعتها بإيمان مصطنع، وقناعة بلهاء تصرخ في أذنه، أن مقولة الزعيم هي الحق الصُّرَاح، ومقالة الأغيار هي الباطل البَوَاح.
فطمرت في غمرة تلك الحماسات الزائدة، والانفعالات الجارفة، كثير من الحقائق التاريخية، ولويت عنق حقائق أخرى ناصعة، وسلطت معاول القراءات المتعسفة والمتحيزة على البعض المتبقي، مما ألقى بظلاله على المشروع الوحدوي، الذي قدّم المغاربة الكثير من أجل إيقاعه وتنجيزه، وأحدث ارتباكات واختلالات في النسيج المجتمعي، ودق إسفينا عميقا في البناء الجنسي والعرقي القطري، أتاح معه فرصا للأباعد والأجانب للتدخل في شؤوننا المحلية، وهمومنا الداخلية، تحت ذريعة نصرة المظلومين، ورد حقوق المهضومين، والمحافظة على خصوصية العناصر الأصيلة، من الانقراض والاندثار.
والحقيقة أن هذا التدخل ليس إلا مدرجة لتوسط وظيفي مرموق، وسمسرة موجّهة، لا تخلو من إملاءات سياسية، أو مغانم اقتصادية، أو مكاسب فكرية، تمهد لتدويل القضية المفتعلة، وإعطائها بعدا تشاركيا، يتيح لكل غريب الإدلاء فيها بدلوه، والرمي فيها بسهمه، وإن كان من الأعداء والمتربصين.
ويكفي هذا دليلا على تهافت الاستمداد الفكري، وهلهلة أصول الارتواء، عند هؤلاء المراهقين.
إن المتأمل في القواعد التي تؤسس للخطاب التمزيغي الحديث، يجدها تستند في الجملة إلى رافدين:
الأول: خلاصات أفكار بشر نُحتت عقولهم هناك وراء خط اللِّيمس، يُشك في إخلاصهم وصدقهم في الانتماء لهذه الأمة الشاهدة، ولا يعرف لهم سابق فضل على هذا الوطن، ولا يد بيضاء امتدت إليه بالعطاء والإحسان، إلا التنمُّر والادعاء.
الثاني: الاستقواء بالأغيار، والاستنجاد بالأباعد، خاصة الذين اجترحوا الجرائم والمذابح في حق التاريخ والوطن والإنسان، كالمستعمر الفرنسي، والكيان الصهيوني، والعلمانيين المتطرفين، والانفصاليين التقدميين، مما يثير الشكوك والتساؤلات عن النوايا والدوافع الحقيقية التي تؤطرهم، وتحكم تحركاتهم.
وإذا كانت عدالة القضايا تُستَمد من منطقيتها، وقوتها الذاتية، وتتطور هذه العدالة تدريجيا وتلقائيا، للتَّحقق والبروز، فإن مشروعية القضية الأمازيغية، وقوة مسارها، تُعِوزُها هذه الصلابة الذاتية، وتفتقر إلى المقومات الأساسية للتطور والاستمرار، لاستنادها إلى مصدرين يتيمين، نابعين من خارج الذات.
ولك أيها القارئ أن تفهم سرَّ الجنوح إلى هذه المزالق والتضليلات، وسر الاستغاثة بالغرباء عن الدار، إذا أدركت المقصد والغاية التي تحرك القوم، وتستفز كيانهم، وهي محاولة حشد دعم موسع، يضفي على الخطاب الأمازيغي، تأصيلا واستمدادا من داخل التاريخ، ولو بالكذب والزور والتأويل، لِيُبَارِك مطالبَه قسْراً، من يَسِمُونَهم جُزَافا بالعروبيين والإسلامويين، كل ذلك لمضارعة ومزاحمة خطاب الذات (العربي والأمازيغي المعتدل) المتوطن في هذا البلد منذ الفتح الإسلامي، والمتحرر من الاستقواء الخارجي، والمستفيد من توظيف التاريخ الجديد في النهضة والقومة واليقظة، والمُوَّفق في نَخْل الاعتبار والعظة، من ركام الأحداث والوقائع، ثم الاسترشاد بهما بَعْدُ في دروب الحياة المختلفة، دون أن يقع أسيرا لذلك التاريخ، أو عانٍ للحنين إليه.
ولم يكن العائق لتلك المحاولة التأسيسية للممزغين الجدد، سوى هذا المشروع الذي ينطلق من تصورات تناقض تصورهم للتاريخ، وتتجاوز نظرهم التقليدي إليه، إلى قراءة تجديدية، تعتبر التاريخ معيارا للاستثمار، وأداة للوظيفة والحركة، لا مجرد حدث واقع في الزمن والحيز والحال.
وأمام هذا التهديد والزعزعة للكيان، لم يجد المريدون إلا استنفار واستفراغ كل الجهود والطاقات، لهدم المشروع الإسلامي، وذلك بتشويه صورته، ودكدكة أصوله، والتشكيك في صلاحية بعض أحكامه، والتشويش على جملة من مبادئه، والتنقيص من كثير من تعاليمه، في حين يتم الاحتفاء بما يناقض هذا الدين، من الأعراف المهترئة، والسلوكات الفاسدة، المرفوضة عقديا وأخلاقيا، والتنويه ببعض الفئات الوثنية البائدة، وبعض الشخصيات والتكثلات التاريخية المنفلتة، كيوغرطة ويوبا ومسينسا وتكفريناس وتانيت وابن تومرت والبورغواطيين والفاطميين العبيديين.
إن الاختلاف في النظر إلى التاريخ، من حيث هو منهج تمخَّض عن التجربة الإنسانية المتراكمة، ومحكوم بالسنن الالهية، وقواعد الاجتماع البشري، لا ينبغي علميا ومنهجيا أن يُفهم بنوع من التسطيح والسذاجة، ويختزل في اختلافات في الاعتبار، أو تجاذب في الفكر، أو يقدَّم على أنه مسألة مُمحَّضة للعلم، تسع تعدد الأنظار، وتوارد الأفهام، ولا عتْب على أحد فيما انتحى، ولا لوم عليه فيما ذهب، فالمصيب مأجور ضِعْفاً، والمخطئ نال أجر الاجتهاد.
بل القضية أعمق من هذا الطرح، و أبعد من هذا التناول، والمحدد لهذا العمق والبعد، هو النظر الشمولي التركيبي للمسألة الأمازيغية، الذي لا يفيده منهج التفكيك والانشطار، الناظر والدارس للقضايا باستقلال عن الضمائم الملازمة، والقرائن المحتفة.
ومنهج الدمج هو وحده الذي يعطي الصورة المكتملة والواضحة عن الموقف المبدئي للتمزيغيين من كل شيء له استمداد شرعي، وامتداد إسلامي، كالموقف من المقدسات الإسلامية، والموقف من المشروع الإسلامي العام، في الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام، ومواقف من قضايا مفاهيمية ومعجمية كمدلولات اللغة والجنس والأمة والفتح والعُجمة والعروبة والتحية، وغيرها.
إن ما تنضح به تصريحات وكتابات منظري هذا الفكر، تنبئ بكل وضوح أن الموقف ليس من قضايا جزئية، ولا اختلافات ثانوية، ولا سجالات على الهامش، وإنما هو الموقف من الإسلام نفسه، في شموليته وسرمديته، وقدرته على احتواء وتذويب جميع الثقافات والحضارات في بوثقة واحدة، دون سلب لخصوصياتها، أو إلغاء لمميزاتها، إذا كانت لا تتعارض مع نصوص الشريعة ومقاصدها.
ولا نبالغ إذا قلنا إن هذا الموقف ليس إلا امتدادا لمواقف شبيهة، طَوَّعَت التاريخ لخدمة العِرق، وامتطت الإثنية والعصبية مركبا لتفسير الأحداث، مثل المشروع الفارسي الكَسْروي، و المشروع القومي العَفْلقي، والمشروع الشعوبي العنصري.
إذن المستهدف ليس هو حكم جزئي، أو فكرة تتجاذبها قراءات متعددة، أو قضية تطيق الاختلاف النوعي، وإنما هي المنظومة الإسلامية كاملة، بكل أبعادها المحورية: العقدية، والتشريعية، والسلوكية.