لا بأس أن نكرر عبارة كنا قد أسلفنا حبرها في سطور قد يكون الدهر وأدها في جوفه؛ نكررها مع هذا الضجيج الحائف والرجم الزائف الذي تقود عجلة دورانه نسوة المجتمع المدني في أيامنا هذه.
نسوة صرن يتقن فن افتعال الضجة وإقامة الحروب الكلامية والصراعات المتهارشة، تلك هي عبارة أنه من الوهم والسراب أن يعتقد كائن من كان أن قضية المرأة تظل ثغرة وشرخا في تعاليم الإسلام يمكن النفاذ منها والتسلل إلى عرينه خفية ولواذا لنشر الشكوى وإظهار التسلط.
فليطمئن هؤلاء الواهمون فليس في الإسلام شرخ مرعب؛ ولا ثغرة مخوف، وإذا كان هؤلاء قد طال عليهم الأمد فنسوا؛ فلا بأس في الذكرى ولا ضير في اجترار الفكرة؛ فإننا قوم لنا عقيدة في ديننا نتقرب إلى ربنا جل جلاله بالمرابطة على ثخوم متشابهه؛ والمصابرة على حدود محكمه.
ومن هذا المحكم الذي يرد إليه كل متشابه أن إسلامنا العظيم جاء والمرأة بين سندان جاهلية الذكورة ومطرقة كهنوتية الكنيسة، ذكورة عربية كانت تستقبل ولادة الأنثى بما عبر عنه القرآن الكريم {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}، استقبال كان لا يطول وسواد كان يتوج بوأد حائف غير بريء، وكهنوتية آثرنا أن نتخلى عن وصفها لواحدة من النسوة التي ناضلت بقلمها وأدبها من أجل شرح ما تعانيه المرأة في المجتمع النصراني من بغضاء ونكران وازدراء تلك هي الكاتبة “كريستين دي بيزان” من خلال كتابها (مدينة السيدات) الذي جاء ناضحا بنقل بعض من الأحكام الجائرة الصادرة ضد معشر النساء من آباء الكنيسة كأوغسطين واكويناس وغيرهم، وها هي تنقل صورة هذه المعاناة في سؤالها التراجيدي سؤال تقول فيه:
هل الإله الصالح العادل يحكم على نصف البشر بهذا الهوان والأذى؟
واحسرتاه لماذا لم تجعلني أولد في هذه الدنيا رجلا حتى أستطيع خدمتك على نحو أفضل؟
ثم اسمع إلى قديسهم “امبروز” وهو يقول: “تلك التي لا تؤمن إنما هي امرأة ويجب أن تصنف مع جنسها الأنثوي، أما تلك التي تؤمن -أي تترهب- فهي تتقدم نحو الرجولة الكاملة، وآنذاك تتخلى عن اسم جنسها الأنثوي وغوايات الشباب وثرثرة العجائز” اهـ.
وبين هذا وذاك انبلج صبح الإسلام مقررا حقيقة أن خلق الناس رجالا ونساء من نفس واحدة، وأنه لا فضل لهذا على هذه ولا لذلك على تلك إلا بالتقوى. فليست الذكورة بميزان الشرع تشريف يمكن أن يرجح به كيل الحسنات، ولا الأنوثة بخس يمكن أن تميل به كفة السيئات، بل الكل في مضمار الابتلاء ميسر لما خلق له، وليس للإنسان في هذا المضمار إلا ما سعى مصداقا لقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وبما أن الشرف لا يورث والعار كذلك؛ فكذلك الأمر بالنسبة للإيمان والكفر؛ فالقاعدة المقررة في الباب أو مضمار الابتلاء نطق بها القرآن الكريم تصريحا؛ لا تلميح فيه ولا كناية؛ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
ولو قال قائل هل من مزيد لذكرناه باستجابة ربنا لكل من دعاه ابتغاء فضله، وقوله جل جلاله {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}.
فإذا كان هذا شأن الإسلام وشأن رسالته الفاضلة فما بال موؤودة الأمس قد جندتها اليد المتربصة في حرب هجومية باسم الحرية والمساواة ونضالات المجتمع المدني؛ تلك اليد التي أخفقت في بطشها المسلح ومواجهتها العسكرية فقررت بتلبيس وتدليس اللجوء إلى الإغواء كبديل حضاري عن البطش السافر.
وكان من صور إغوائها ما بات يعرف بحركة “الفيمينيزم” أي “التمركز حول الأنثى”، وهي عملية يراد من خلالها وعبر تجلياتها الاستغرابية ضرب عرى الأسرة باعتبار هذه الأخيرة لم تزل تمثل حصن المقاومة؛ والمنظومة التي تتم عبرها عملية توريث القيم القومية والتراثية والدينية؛ بالإضافة إلى كون الأسرة في الاعتبار الإسلامي لا زالت بحمد الله تشكل الوحدة التحليلية الأساسية وهذا بخلاف المجتمع الغربي الذي يشكل الفرد وحدته التحليلية؛ وهو اليوم من خلال برقياته الوافدة وغزواته التبشيرية التي تنادي بتحرير المرأة تحريرا إباحيا؛ إنما همه الأول هو خلق تشظي في بنياننا المرصوص وجسدنا الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر؛ لنصير من أولئك الذين إذا رأيتهم تحسبهم جميعا لكن قلوبهم شتى، هذه تحمل معول هدم والآخر تأبط شر ظلم والكل للبعض ند وخصم.
وإن من دواعي الحزن والأسى علمنا علم اليقين أن ما يرسله الغرب من وافدات ملغومة؛ وتدافع عنه اليوم قوى جائرة مغبونة؛ ما هو على الحق والحقيقة إلا غرائز مسعورة وطبائع موبوءة وأهواء مشبوهة؛ تريد تسخير المرأة لمباذل مقيتة ومفاعل سيئة ليس فيها احترام لعفة ودين ولا من ورائها إنصاف وصون لإنسانيتها.
ولنأخذ مثالا على ما أسلفناه هذا الضجيج الذي تفتعله اليوم نساء المجتمع المغربي الحداثي حول قضية أمينة المغتصبة التي أقدمت على قتل نفسها لنتساءل:
هل المراد من هذه الضجة تفعيل القوانين الرادعة وإعمال الحدود الزاجرة لكل صائل مغتصب؟
أم أن هذا الضجيج غايته ضرب مؤسسة الزواج الذي صارت نسبه بيننا في غربة غريبة وقلة قليلة؟
فإذا كان الغرض هو الضرب بيد من حديد على ظاهرة الاغتصاب فإننا نذكرهم بما هو معلوم عندهم من المحسوس بالضرورة بأن هناك عشرات الآلاف من أمينة تغتصب في محيط سرادق مهرجانات الحداثة الثقافية، وعشرات الآلاف تغتصب في القرى النائية اغتصابا جماعيا باسم أعراف بالية وتقاليد أقرب إلى الوثنية، وعشرات الآلاف تغتصب طفولتهن في المدن السياحية ذات الفنادق التي تعلوها نجوم الجودة العالمية، حتى إذا قام وزير من حكومة العدالة والتنمية بتوصيف هذا الوضع المشين بكلام مجمل أقرب إلى التلميح منه إلى التصريح كدتن تكن عليه لبدا!!
فلتكن لإحداكن ذاكرة وهي تحمل مكبر صوت تنادي بما تنادي إليه وتشارك أخواتها في أدبيات فن افتعال الضجة ذاكرة تجتر ما كتبته يمينها في يوم من أيام دهرها من سطور ناضحة بازدراء رمز العذرية والتطاول على فضيلة النقاب وفريضة الحجاب، والتعرض لمشاريع منع الاختلاط في المدارس والجامعات، ودعوة إلى اتباع الشهوات والمدافعة عن السفور وتبضيع مفاتن النساء وإقحامهن في الترويج لكل منتوج دونما حاجة إلى هذا الإقحام.
وإذا كانت أوربا رائدة الحداثة ورافعة لواء الحرية والمساواة قد وصل بها تحضرها وتمدنها إلى أن يجد فيها المواطن والغريب الزائر دورا للبغاء والخنا توضع فيها النساء حافيات عاريات وراء واجهات زجاجية لتنظر إليها ذئاب الحداثة وقطعان المعصية ثم تختار ما يعجبها ويسيل لعابها بثمن بخس تكون فيه من الزاهدين؛ فإن إسلامنا العظيم عقيدة وسلوكا وفكرا يبقى بعيدا عن هذا الشطط وهذه البهيمية وهذا الانحطاط، وهو أرفع من أن ينحدر إلى هذا المستوى أو أن يتسفل المنتسبون إليه على الحق والصدق في حضيض ودرك مثل هكذا نقيصة.