واهمون هؤلاء الذين تصوروا أول وهلة استشراف الغلبة وتأبيد العربدة الحداثية..
واهمون هؤلاء الذين كانوا يقفون في العتمة؛ على أكمة الأحداث الدامية الإرهابية يستشرفون إزاحة الدين من حياة الشعوب المنيبة؛ لحساب حرياتهم المدنية المارقة؛ ولحساب معاصرتهم الفارقة..
واهمون حقا وصدقا..
واهمون ليس من باب الرجم بالغيب؛ واهمون لما آلت إليه أمانيهم وأحيلت عليه دعواهم؛ فلا يزال بحمد الله هذا الدين العظيم يسكن وجدان الأمة؛ مستقرا في ألباب الناس وضمائرهم، كما لا تزال العقيدة الدينية هي الآصرة التي تدور على رحاها عملية ذهاب الزبد جفاء، إذ أيما معركة ولحمة صراع بين حق الإسلام وباطل ما سواه يتنزل حكم الله الحاسم: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}.
وهذا لا يمنع كونا أن يحصل للباطل صولة على الحق؛ وللأمد دولة على الأبد، ولكن الممنوع الخارج عن قواعد الاطراد أن يعتقد المنتسب إلى الوهم النفعية في جاهليته؛ بل المكث والدوام لهذه الجاهلية الموصلة دون ريب وإشكالية إلى منزلقات سوء العاقبة في هذه الدنيا وتلك الآخرة.
فأنى لهذه الجاهلية المكعبة والطبائع المركبة وهي تعربد في حكمها لمناحي الحياة البشرية؛ أن تصل بركائب الأمة إلى عتبة المعافاة والعافية.
وهذا الواقع الذي صار له اليوم دافع يؤرخ بالصوت والصورة إلى جملة الكوارث وتفصيل العاهات التي نجمت عن تنحية الدين لحساب تبني أوضار الذين سبقونا إلى جحر الضب، وآصار الذين مشينا طويلا مقتفين آثار خطواتهم التلبيسية.
واليوم ونحن نرى احتضار هذه الدعوى الحائفة وتداعي بنيانها الحداثي بآلياتها واختياراتها الديمقراطية التي أفرزت صناديقها الزجاجية في مشارق جغرافيتنا ومغاربها ظهور أغلبية دينية؛ لا تعجب أولئك الواهمون الذين نراهم اليوم؛ وحفاظا على ليبراليتهم ويساريتهم وحداثتهم؛ يسعون باسم التوافق وتثمين الأقلية النخبوية ومقاومة استبداد الأغلبية والمحافظة على المكتسبات الاستغرابية التي أكرهوا على اعتناقها بتركيز أفقي كل أطياف المجتمعات الإسلامية التي كانت تعاني شعوبها من ويلات نزقهم السياسي ونفاقهم التدبيري وانفصامهم الشخصاني، نراهم يعمدون إلى تبديل مفاهيمهم المسكوكة، وتبديل اختياراتهم المحبوكة.
فحتى الأمس القريب وحينما كانت الأغلبية الغثائية إلى جانبهم، كانت الديمقراطية في عرف تنظيرهم هي حكم الأكثرية، أما والحال قد تبدل وأفضى إلى سحب بساط التسلط من تحت قوائمهم، واستفاقوا بعد غطرستهم النرجسية على سرابية دعوى تأبيد مشروع الحداثة، صارت الديمقراطية هي نموذج توافقي يخلي للأقلية هامش تسلط على الأغلبية؛ بل ويعيق عبر مراحل تنفيذ هذا الأغلبية لمشاريعها الإصلاحية، ويعمل المرة تلو الأخرى على خلق إقعاد مائل منحرف في سيرورة خط استقامتها.
وذلك عبر الهمز واللمز والتعرض بالشبه الكاذبة والأنباز التي تعكس حجم الغل المكنون في صدورها؛ والمستتر وراء الألفاظ المجملة؛ والكلمات الخادعة والمتباكية على ضياع سطوة أفل نجمها؛ وولى عهدها إلى غير رجعة إنشاء الله تعالى.
إن قتلة الفكر لا يستكثر عليهم اللغط؛ كما أن لصوص السياسة لا يشط منهم ولا ينأى عن سيرتهم الزور والافتراء؛ فلا عجب إذا أن نراهم اليوم في غمرتهم ومصيبتهم السياسية يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق.
ولعل من أكبر حسنات هذا الجدال أن تتكشف الصورة لكل منتسب بعيدا عن دعوى المزايدة تلك الصورة التي يؤثث سرياليتها غايتهم الحقيقية التي توارت طويلا وراء أكمة خبثهم؛ وتدليس كتمانهم.
غاية تكشفت سوءتها بعد طول كد وسعي؛ إنها غاية اجتثاث الإسلام من تربة الوطن؛ وردم عيون سواقيه التي تمد الناشئة بمادة حياتهم الروحية؛ وتنير لهم طريق البناء والعطاء؛ وحمل هم الانتماء إلى الوطن؛ والانتماء إلى الأمة. انتماء لا ينفك فيه البعض عن الكل؛ بل يدور هذا البعض الوطني في فلك الكل الأمتي.
وعليه كان حقيقا بكل غيور يزعجه هذا الارتداد الخلقي والنكوص الثقافي والتحير التشريعي الذي أدار رحى تنفيذه أصالة مستعمر الأمس؛ وحفدته من بني الجلدة؛ وفق سياسة ماكرة ذات عمد ورقابة وقصد دائب على تفريخ سخائم ملحدة؛ وعم كل مشروع حداثي من شأنه أن يطرد عرى الإيمان من القلوب المفطورة على التوحيد والإنابة، ويشيع بين عصب الأمة وعمدة قوامها كل منكر وفحشاء، حقيق بهذا الغيور وحري به أن يقلق على مستقبل دينه وآصرة تدين مجتمعه الإسلامي.
ومن كانت له دراية وتلاوة للكتب العلمانية وما بث فيها من رذائل وعناد وإلحاد وقف دون ريب أو أدنى شك على حقيقة صريحة؛ لا تلميح فيها ولا كناية؛ على أن المقصود الحقيقي للمشروع العلماني هو درس ميراث محمد من الألف إلى الياء، وإيصال مآرب الغرب المتربص التي لم يتبدل خط هجومها على ترامي الأزمنة.
مآرب من قبيل أن قرآننا لا يعدو أن يكون صحائف من صنع البشر، وأن الأخذ بأخباره وأحكامه رجعية وظلامية، وأن واجب تركه والانقلاب عليه طريق خلاص وانفكاك وهرولة في مسعى المعاصرة والحداثة؛ التي كان لازمها ولا يزال ولادة مناخ التقدم وبيئة الرقي؛ وأما ما دون هذه المآرب وسواها فلا يعدو أن يكون قشورا وإهابا وأصباغا ودهونا تجميلية تستر بها دعاوي المعاصرة والديمقراطية والحداثة سوءة أدوارها الماسونية، وبشاعة وجهها القبيح الذي يتطير من لقياه كل حامل همّ يخاف على وطنه وأمته؛ خوف تعبد؛ من أن تضيع وينقض غزل متانة انتسابها، فيعمى عليها صراط الاستقامة وسبيل النجاة الذي كان نوره يغشي الأبصار، والذي اتخذه أسلافنا مسلكا وحيدا إلى التحضر، نقلهم من رعاية الغنم إلى سياسة الأمم.
ودعك من تلك الدراية والتلاوة؛ ثم تعالى لتنظر وتسمع وتقرأ عن هذا الضجيج وحجم هذا الارتجاج الذي أحدثه مشروع الأستاذ مصطفى الخلفي؛ مشروع إصلاح القناة الثانية وإعادة هيكلة برامجها؛ لتقف على حجم الفجوة التي صارت محشورة بين هذا الشعب المنيب وهذه العصبة الفرانكفونية العلمانية الحائفة.
لقد كان اقتراح الآذان ومنع الرهان ونقل الجمعة وإعادة الاعتبار للغة العربية واللهجات الأمازيغية وإقصاء مظاهر الرعونة والتفلت الخلقي والفساد المالي والتبذير في مجال التدبير كفيل بهذه الحملة الشعواء؛ وإن شئت فسميها الحرب التي دار وطيسها على الأثير المسموع والقرطاس المسطور والفضاء المنظور..
ارتفع العويل وعلا منطق: رمي التهمة؛ وسوء الظن؛ وساد الترويج للفوبيا من الإسلام؛ باسم الغلو والتطرف ومحاكم التفتيش الجديدة، ومنابذة سماحة الإسلام الصوفي ووسطيته مع الركوب على تهمة مخالفة أدبيات التدرج الكوني في باب الإصلاح..
وتوالت الأحداث ولا تزال حرب وضجيج وعويل لا يمكن أن تقرأ منه على ضوء القراءة الإيمانية إلا أننا نكفكف في جهد جهيد عناد قوم أوتوا قدرة خارقة في دائرة السوء وقرص الهدم على التلون والحربائية؛ وإخفاء النيات المتوارية وراء كلام أحلى من العسل؛ ومقاصد تخفيها أسمال طيفها لا يضاهيها الحرير ولا ينال من سمك صدودها الريح الزمهرير.
فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.