ذكرنا في الحلقة الماضية أن الإسلام يهدي الإنسان منهجا متكاملا لتحرير نفسه من قيود العبودية الشهوانية والتسامي عليها، ثم التوسل بها -لا إليها- إلى ما يخدم مصلحته فردا ومجتمعا في المعاش والمعاد… ومن ضمن معالم هذا المنهج المتكامل:
استعباد الأعراف والتقاليد والآراء الفاسدة
إن دين الإسلام يربأ بالإنسان المكرم أن يعيش أسيرا للهوى الجماعي من أعراف وتقاليد بالية بان فسادها وبوارها، ولا أن يقيد نفسه بآراء الناس دون إعمال النظر فيها والتثبت من مدى صوابها وسدادها.
ونبينا عليه الصلاة والسلام إذ يدعونا إلى توحيد المعبود جل وعلا؛ فإنه يحررنا من الخضوع والخنوع للأعراف الفاسدة، فهو يوصينا ألا نقف أمامها وقفة العبد الذي لا يملك من أمره شيئا؛ وإنما وقفة السيد الحر صاحب الرأي والمبدأ. قال عليه الصلاة والسلام: “لا تكونوا إمعة؛ تقولون إن أحسن الناس أحسنّا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا”1.
وقد عاب القرآن الكريم على أولئك الذين رضوا لأنفسهم ذل العبودية لآراء الآباء بعد ما تبين زيغها وضلالها؛ فـ”قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا”المائدة 104 “وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا” الأعراف 28، فلا حجة لهم على ما هم فيه من تيه وضلال إلا قولهم “بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ” الشعراء 74.
ولا يزال القرآن يوقظ هممهم ويحفّزهم للترفع عن هذا الذل، ويدعوهم إلى أن يزيحوا عن عقولهم غشاء الاستعباد، فينظروا ويفكروا كما الأحرار، لعلهم يدركون سوء ما كان عليه آباؤهم. قال تعالى: “أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ” البقرة 170 وقال: “أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ” المائدة 104.
وجزاء وفاقا لهذه الروح التحريرية التي يقصد الإسلام نفخها في النفوس؛ فإن المحققين من علماء الشريعة الإسلامية ذموا التقليد وهو “أن يتبع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقدا للحقيقة فيه، من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه”2.
وعليه يتنزّل قول أبي حنيفة(ت 150هـ): “لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي”.
وقول الإمام مالك(ت179هـ): “ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
وقول الإمام الشافعي (ت 204هـ) مخاطبا الإمام المزني (ت264هـ): “يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول وانظر في ذلك لنفسك، فإنه دين”.
وقول الإمام أحمد (ت241هـ): “لا تقلدني ولا تقلدنّ مالكا ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم…”3.
وهذا التقليد الذي ذمه الأئمة الأعلام، لا يتعلق فقط بمن بلغ مرتبة من العلم تمكنه من النظر والاجتهاد؛ وإنما هو مذموم أيضا حتى في حق العوام. فليس للعامّي إذا تعددت أقوال العلماء في المسألة الواحدة، أن يأخذ بقول فلان أو علان تعصبا أو موافقة لهوى في نفسه؛ وإنما عليه أن يرجح بينهم.
قال الإمام الشاطبي: “لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل، ومصادفة العامي المفتي، فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد. فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معا ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح؛ كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معا ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح”4 . فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد؛ فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف، كذلك المقلد”5. ويكون “الترجيح بالأعلمية وغيرها”6.
وإنما ذمّ التقليد لما فيه من عبودية لغير الله ولما فيه من إبطال لمنفعة العقل؛ الذي خلق للتأمل والتدبر، “فقبيح بمن أعطي شمعة ستضيء بها، أن يطفئها ويمشي في الظلمة” كما قال ابن الجوزي رحمه الله7.
خاتمة
إن صور العبودية لغير الله تعالى، كثيرة منها:
عبودية الشيطان بطاعته فيما يدعو إليه؛ قال تعالى: “أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ…”( يس -61-63).
عبودية الهوى بالاحتكام إلى شريعته دون شريعة الله؛ قال تعالى: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ..”(الجاثية -23).
عبودية المال والمادة..
عبودية القوميات العرقية بالتعصب لها والتفاضل والتفاخر بها..
عبودية الجنس والنوع..
عبودية المذاهب الغربية والشرقية القديمة منها والحديثة…إلخ.
إن كثيرا ممن يرفع شعار الحرية، ما لم يسعى إلى تحقيق العبودية الاختيارية لله تعالى، فإنها لن تنال من الحرية إلا اسمها. وإن كثيرا ممن يزعمون أنهم أبطال الحرية وشهداءها ما هم إلا عبيد لآلهة متعددة. قال ابن تيمية رحمه الله: “فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته”8.
إن الحرية تمامها والسعادة كلها في العبودية لله تعالى والالتزام بدينه، وإن الذل والشقاء في العبودية لغيره.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض”9.
ـــــــــــــــــــــــــــ
1- سنن الترمذي ح:2007.
2- كتاب التعريفات،، الشريف الجرجاني، ص46 بتصرف يسير.
3- الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، ولي الله الدهلوي، ص104.
4- الموافقات في أصول الشريعة للإمام الشاطبي، 4/94.
5- نفسه
6- نفسه
7- تلبيس إبليس، لابن الجوزي، ص74.
8- العبودية ص:80.
9 – صحيح البخاري؛ ح:2886.