لمحة تاريخية عن ظاهرة التنصير بالمغرب محمد السروتي

إن مقاربة ظاهرة التنصير من الناحية التاريخية يعد من المواضيع الهامة التي لم تحظ بعد باهتمام الباحثين والمؤرخين، ويعزى هذا التجاهل أو النسيان لدوافع تختلف من باحث لآخر، فمنهم من يرى أن مثل هذه المظاهر لا تستحق الاهتمام، لكونها مثلا عديمة الأثر في مجرى التاريخ، ويهدف هذا المقال أساسا لمعرفة هل كانت ظاهرة التنصير موجودة في المغرب؟ والأشكال التي ظهرت بـها؟

قبل الاسترسال في المزيد من الإشكاليات التي تهم هذه النقطة أودُّ الإشارة إلى أنني لن أستطيع أن أقدم إجابات يقينية في هذه النقطة بالأساس لاعتبارات عدة، يأتي في مقدمتها ما يتطلبه الأمر من تدقيق وتمحيص وبحث في المصادر التاريخية وكذا النوازل الفقهية لرسم صورة واضحة ومتكاملة عن مظاهر الوجود التنصيرني في بلاد المغرب..
وعليه فالمقال بالأساس دعوة للاهتمام بالظاهرة لما تكتسيه من أهمية وخطورة. ولكن هذا لا يمنع من إيراد بعض الآراء حول الموضوع، التي يمكن أن نقسمها إلى قسمين:
أولا: ما يتعلق بما قبل الفتح
هناك من يقول أن المغرب عرف النصرانية قبل الفتح الإسلامي وذلك عن طريق قرطاجة، لكن دون ضبط لمتى وكيف دخلت؟ ويحدد أحمد الناصري في كتابه الاستقصا دخول النصرانية إلى المغرب في القرن الرابع، وبهذا يفسر وجود بعض الزعماء الأمازيغ النصارى..، وهناك رأي آخر لأحد المؤرخين ينفي فيه اعتناق المغاربة للنصرانية باستثناء بعض المناطق الساحلية . هذه هي جل الآراء التي تحدثت عن الوجود المسيحي بالمغرب قبل الفتح الإسلامي.
ثانيا: ما يتعلق بما بعد الفتح الإسلامي
تشير بعض المصادر في تاريخ المغرب أن المرابطين كانوا أول من أسس واستعان بالكتائب النصرانية وكانت في البداية مؤلفة من أسرى النصارى وربما حتى من الأهالي أيضا.
وقد ورد في “الحلل الموشية” أن السلطان علي بن يوسف وأمه جارية نصرانية كان أول من استخدم الفرسان النصارى حيث عهد إليهم بجباية المكوس وتحصيل الضرائب. وتذكر أيضا بعض المصادر الأخرى أن يوسف بن تاشفين بعد حملة سنة 1138م عاد إلى مراكش ومعه كثير من المستعربين وجميع من لقيهم من الأسرى في البلاد التي دانت له بطاعتها. وقد أنزلهم المدن والحصون مع فوج آخر من النصارى لمواجهة خطر الموحدين الذين أخذوا يهددون مركز الدولة المرابطية ويترقبون الفرصة السانحة لانتزاع ممتلكاتها. وكان علي بن تاشفين يضع ثقته فيهم ويختار بعضهم لمناصب عليا في القصر، ويعين آخرين في الجيش من مختلف الرتب. وكان بين الأسرى نبيلٌ يدعى: “رفرتر”، وقد خاض مجموعة من المعارك ضد الموحدين التي انتصر فيها، وكانت نهايته في المعركة الوحيدة التي انهزم فيها أمام الموحدين، وانتقموا منه بصلبه. ومع أن حكم يوسف بن تاشفين كان قصيرا إلا أنه آثر الجند النصارى كأبيه ثم خلفه بعده.
كما أن هناك حديث حول الوجود النصراني في عهد الموحدين، فذهب بعضهم إلى القول إنه بمجرد وصول الأسرة الموحدية إلى الحكم في المغرب تغير كل شيء بالنسبة للنصارى، فقد حل التعصب الأعمى محل التسامح الذي أبداه نحوهم آخر الملوك المرابطين. ويستند المدافعون عن هذا الرأي إلى أن السلطان عبد المومن حين تولى أمر الدولة سنة 1146م، أعلن للملأ أنه لن يقبل غير المسلمين في مملكته، وأنه سوف يقوض كنائس النصارى ومعابد اليهود. فلهم أن يعتنقوا الإسلام وإلا كان مصيرهم الموت والتشريد. فأسلم بعضهم وقتل آخرون، بينما عبرت طائفة أخرى البحر مع أسقفهم وجانب كبير من رجال الدين، وحطوا الرحال في مدينة طليطلة.
وتذكر المصادر التاريخية أن من بين الذين أسلموا نذكر اسم: “ابن رفرتر”، -قائد علي بن تاشفين- الذي اتخذ لنفسه اسم أبي الحسن علي بن رفرتر وظل خادما وفيا للموحدين.
لكن في المقابل، هناك من المؤرخين من ذهب للقول بأن العصر الموحدي لم يشهد هذا الاضطهاد المزعوم، الذي وصفه البعض بأنه مجرد خرافة لا غير، بل إن الوجود النصراني في العصر الموحدي بالمغرب شكَّل إحدى الواجهات الرائعة والمشرقة من صور التعايش السلمي، لكن لا يعني هذا انتفاء وجود هذا الاضطهاد إذ فسره البعض أنها كانت منطلقة من بواعث دفاعية من خلال أحداث الشغب والسطو التي قامت بها بعض الجاليات التجارية بالمغرب.
ففي رواية لابن عذاري أن بعض التجار الإيطاليين ومن مدينة “جنوه” بالتحديد انطلقوا من الأحياء المخصصة لسكناهم بضاحية سبتة للقيام بعمليات هجومية على المدينة سنة 636هـ/1234م، غير أن حاكمها أبا العباس كتب إلى جميع القبائل يستنفرها “فقتل النصارى في ذلك اليوم قتلا ذريعا، وقطعوا تقطيعا.. وانتهبت أموالهم في فنادقهم أي انتهاب، والتهبت النار في سلعهم وسلاحهم كل التهام”. وهذا الحدث ورد أيضا في الوثائق البابوية ووصفت بأعمال البطش والتنكيل التي مورست من طرف الموحدين ضد بعض المنصرين –إيطاليين وفرنسيين-، لكن هذه الوثائق لم تتفهم الحدث..
فهذه فترة زمنية واحدة، اختلفت حولها الآراء، ووصلت حد التناقض فكيف يمكن التوفيق بين هذه الآراء حول العصور المختلفة؟
وكيف يمكن لنا تفسير الوجود النصراني في المغرب إبان بعض الفترات التاريخية..؟
بعد أن تمت الإشارة المقتضبة للوجود النصراني بالمغرب في فترتي ما قبل وما بعد الفتح سنشير بعجالة إلى المرحلة الحديثة، وننطلق فيها من القرن التاسع عشر باعتبارها فترة شهدت ازدياد الاهتمام التنصيري بالمغرب خاصة بعد أن لقيت هذه الظاهرة مقاومة من المغاربة، وقد استغل الفتيكان مؤتمر “مدريد” الذي عقد للنظر في مشكلة الحماية القنصلية، ووجد فيه الفرصة السانحة لطرح مسألة حرية التدين في المغرب . فقد جاء في رسالة مؤرخة في خامس ماي 1880 من ديوان الفتيكان إلى سفير النمسا: “..يطلب من الدوائر العليا للدول الكاثوليكية أن تتبنى -خلال المؤتمر- توصية حول الحرية الدينية.. وأن قداسة البابا يفرض عليه واجبه الديني الاهتمام بكل أمر قد يفيد في تعزيز المصالح الدينية” .
وجدير بالذكر أن المنصرين كانوا في طليعة المستكشفين الذي حلوا بالمغرب ومهدوا للاستعمار قبل أن تطأها أقدام الجنود والجيوش وتكفي هنا الإشارة للدور الكبير الذي لعبه الجاسوس “دومنيك باديا” والذي عرف بعلي باي العباسي … وكذا الدور الكبير في رسم طبوغرافية المغرب من الشمال إلى الجنوب من طرف “شارل دو فوكو” والتي نشرت تحت عنوان التعرف على المغرب .. إذ اعتبر بعض الباحثين رحلة “دو فوكو” من علامات ارتباط التنصير بالاستعمار، فقد كان يعتقد أن السبيل الوحيد لبقاء سكان شمال إفريقيا على الولاء لفرنسا هو إدخالهم إلى النصرانية، لكن هذا المنصر لم يتردد في الاعتراف بفشل سعيه الشخصي في تنصير من استهدفهم بدعوته في أوساط الفقراء.
خاتمة
إن تناول مظاهر الوجود التنصيري في المغرب تتوقف معرفته أساسا من رصد تجلياته ومظاهره في مختلف المحطات التاريخية، وتزداد أهمية هذا الموضوع حدة وخطورة حين تتحول الظاهرة لخطر يهدد عقيدة المسلم، وعقبة تقف في وجه الصحوة الإسلامية. وما ارتفاع وتيرته في السنوات الأخيرة إلا رغبة من المنصرين في إجهاض هذه الصحوة في مهدها..
فهل هذا التوجس والخوف الذي يبديه بعض المتتبعين من هذه الظاهرة والذي يصل عند البعض حد الهوس، هو تخوف مبرر ومعقول..؟ أم أنه من مخلفات الركود والتقوقع على الذات، حتى أصبحت “هذه الذات” رافضة للـ”آخر” مقصية له تحت مسوغات لا أساس لها؟؟ سؤال مهم يطرحه أي باحث منصف يتوخى الصدق والموضوعية، وسنحاول الإجابة عنه في المقالات المقبلة حول الموضوع إن شاء الله تعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *