إمام المسجد بين ضيق التقليد وسعة الاتباع ذوالفقار بلعويدي

إمام المسجد بين متابعة النبي وضغط الوظيفة
لقد أثار انتباه عمار المساجد وجذب نظرهم في قليل من الشهور السابقة. أن من أئمة الصلوات الخمس، من صار يخرج من الصلاة بتسليمة واحدة، بعدما كان دأبه فترة من الزمن ينهي صلاته بتسليمتين. الشيء الذي أثار تساؤلات؛ وأخذا وردا بين الناس. إلا أن المتفق عليه بينهم هو أن الأمر رسمي وأن الجهات المسئولة سواء منها أكانت مندوبيات الأوقاف والشؤون الإسلامية أم كانت المجالس العلمية، فإنها هي التي وراء إلزام أئمة المساجد قصرا بتسليمة واحدة بدل تسليمتين. وذلك باعتبار أن الخروج من الصلاة بتسليمة واحدة هو الذي به العمل عند المالكية، والمغرب بلد مالكي المذهب.
أولاً نحب أن نبين للقارئ في البداية أننا لسنا نحن من بدءنا بإثارة هذا الموضوع، وإنما البادئ هو من منع أئمة المساجد من الأخذ بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، وأمرهم بهجر السنة الثابتة عنه وتركها. وكأن الخروج من الصلاة بتسليمتين أمر منكر غريب. ناهيك عما في هذا الإلزام من توريث بعض أئمة المساجد جرأة على رد النصوص الثابتة. وما فيه من استفزاز لمشاعر البعض الآخر، وما يسبب لهم من حرج الاستجابة لأمر هم غير مقتنعين به، ولطول ما اعتادوا عليه من الخروج من الصلاة بتسليمتين دون نكير.
إنه في الواقع موقف محرج وامتحان عسير، والإخفاق فيه ينذر بضياع هيبة إمام المسجد في نفوس من يصلي بهم، ويفقده القدرة على التأثير في أخلاقهم وسلوكهم، فهو المقدم عليهم، والأمير في صلاتهم. لكن مثل هذا الموقف يظهر للعيان أن إمام المسجد ليس له من الأمر شيء، إنما هو أجير، يفعل ما يملى عليه، ويقول ما يقال له، وهذا يفقد المأتمين الثقة بمواقفه.
فإذا كان إمام المسجد يعلم أنه كان صلى الله عليه وسلم يُسلم عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيسر). وكان أحيانا يزيد في التسليمة الأولى: (وبركاته)، و(كان إذا قال عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، اقتصر أحيانا على قوله عن يساره: السلام عليكم)(1).
فما عساه في هذا الحال أن يفعل وهو يعلم أن هذا كله من فعل نبيه صلوات الله عليه وسلامه، الذي أمره الله أن يحتكم إليه عند الخلاف. فالأحاديث صحيحة، والدلالة واضحة، وكلها تفيد مشروعية الخروج من الصلاة بتسليمتين. وقد رواها عنه خمسة عشر صحابيا وهم عبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وسهل بن سعد الساعدي، ووائل بن حجر، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعري، وطلق بن علي، وأوس بن أوس، وأبو رمثة، وعدي بن عميرة رضي الله عنهم(2) على أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك.
فهل يأخذ بها أم يردها لأنها خلاف المذهب؟!
أما الخروج من الصلاة بتسليمة واحدة فأحاديثها مختلف في صحتها، والثابت منها عند من ثبتت عندهم تحمل على بيان جواز الاقتصار على الواجب منها الذي هو التسليمة الواحدة.
نعم لو أن الجهات المسؤولة حفزت الأئمة على إعمال الثابت عن رسول الله بمجموعه، وشجعتهم على إجلال فعل نبيهم لأنه من إجلال النبي عليه الصلاة والسلام. وأيدتهم على الأخذ بالثابت من السنة الصحيحة، وإن كان الأمر المعمول به خلاف المشهور الذي به العمل عند المالكية، ثم بينت لهم أن هذا التصرف لا يتعارض في شيء مع تعظيم ومحبة الإمام مالك رحمه الله، لكان الأمر أدعى للقبول في نفوس الأئمة والمصلين. حيث لا ضير في فعل ما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، والتنوع فيه بتنويعه عليه الصلاة والسلام. وإن كان هذا خلاف المذهب؛ تارة بتسليمة واحدة، وتارة أخرى على الأكثر كما هو الغالب من فعله بتسليمتين، وبهذا يتحقق كمال الإتباع؟!
وإلا فإن الأمر ظاهر لا ينفع معه تمحل لنصرة مذهب أو تعسف في القول لتغليب التسليمة الواحدة على التسليمتين دون سبب إلا التعصب للمذهب وذلك كما في قولهم: (واختار جمهور المالكية التسليمة الواحدة.. خوفا من مبادرة بعض المأمومين للتسليم وراء الإمام بعد التسليمة الواحدة، فيقع في سبق الإمام المنهي عنه..)(3). وهذا تعليل فقط من أجل تقديم قول المذهب على اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لما فيه من تحكيم المذهب على الشرع.
أولا: لأن رسول الله لم يعتبر عند خروجه من صلاته بتسليمتين بمثل هذا التعليل.
وثانيا: أن تعطيل السنن بتعليل الخوف وذريعة الاحتياط دون اعتبار الضوابط المعتبرة في سد الذرائع، يستلزم تعطيل كثير من السنن والمستحبات. وقد وقع بعض المالكية في هذا المحذور، كما هو قولهم بكراهة دعاء الاستفتاح في الصلاة، وقولهم بكراهة صوم ست من شوال.
وليت شعري ما الداعي لهذا كله وإلى التنكر لمثل سنة الخروج من الصلاة بتسليمتين بهذا الشكل وهي المقررة في كتاب «دليل الإمام والخطيب والواعظ » بقولهم: (وهذا في مقابل ورود أدلة صحيحة في التسليم مرتين وهو قول بعض المالكية)(4)؟!

بين منهج الإمام مالك ومنهج المنتسبين إليه
إن الأمر الذي نحن بصدده ليس هو معالجة مسألة خروج الإمام من الصلاة بتسليمة أو تسليمتين، وإنما هو في العمق مسألة خلل منهجي في التلقي والتنفيذ. إنها قضية تحقيق في مسألة جعل المذهب هو الأصل والكتاب والسنة هما الفرع، وما يترتب عليها من مخالفة النصوص الصحيحة الصريحة تعصبا للمذهب. وهذا خلاف المنهج الصحيح الذي كان عليه الأئمة الأخيار كمالك وغيره رحمة الله على الجميع، والقاضي بتحكيم الكتاب والسنة في كل خلاف دون تعصب لمذهب أو تحيز لإمام.
فهذا الإمام مالك رحمه الله يقول: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه).
وقال أيضا: (ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم).
وما كان منه رحمه الله من رفض مشروع الخليفة المنصور القاضي بإلزام الناس بالعمل بمذهب مالك المدون في كتابه الموطأ، فيه دلالة على أن الإمام رحمه الله لا يجيز التزام مذهب معين.
فيا ترى من الأحق بالانتساب إلى الإمام مالك؟!
إن مشكلتنا في الواقع ليست مع الإمام مالك، وإنما مشكلتنا مع الذين انتسبوا إليه طوعا أو كرها. ولم يسلكوا مسلكه في تحري صواب المذهب من خطئه، بتحكيم الكتاب في كل أمر، وتأمير السنة على كل قول، ونبذ كل ما يخالفهما من رأي أو اقتراح مهما كان قائلهما.
إنها مسألة جوهرية، حيث لا حق لأحد في الخروج عما أتى به الرسول من فعل أو ترك. والمشكلة ليست جهلا يزول بعلم، وإنما هي عصبية أو وسوسة لا يتحرر المرء من عقالهما إلا بالمتابعة الكاملة لسيد الخلق، والمأسور من أسرته مصلحته عن اتباع سنة نبيه.
وإلا فهل مخالفة سنة النبي جزئية صغيرة؟!
فعسى أن نتأمل هذا ونتدبره، فحسب المرء أن يكون حرا مأجورا خير له من أن يكون عبدا مقهورا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر صفة صلاة النبي للشيخ الألباني رحمه الله ص:187-188.
(2) أنظر زاد المعاد 1/250.
(3) دليل الإمام والخطيب والواعظ ص:120.
(4) المصدر نفسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *