كيف نستقبل رمضان موسم الخيرات والبركات؟

 

أيام قليلة ويحل علينا شهر رمضان شهر مضاعفة الحسناتِ، ورفعِ الدّرجات، ومغفرة الذنوب والخطيئات. شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتصفد فيه مردة الجان.

شهر تهجُّد وتراويح، وذكر وتسبيح، وتلاوة وجود وصدقات، وتوبة وضراعة ودعوات. شهر خيرات ورحمات، وفضائلَ ومكرماتِ، ويكفيه شرفاً أن اللهَ جلّ وعلا أنزل فيه كلامَه القرآنَ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان} [البقرة:185].

فكيف يكونُ يا ترى استقبالُ هذا الضّيفِ الكريمِ؟ وكيف يكونُ اغتنامُ هذا الموسمِ العظيمِ؟

أوّلاً: ينبغي على المسلمِ أن يشكر الله تعالى على بلوغه هذا الشهر -الذي يضاعفُ فيه العملُ، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ- فإنّ بلوغَه نعمةٌ عُظمى، تستوجبُ عليه الشُّكرَ للمولى سبحانَهُ وتعالى، وليتذكّر كم من النّاسِ قد حُرمَ بلوغَه؛ ممّن كان يعرفهم من خلاّن وأقاربَ وأحباب، ومعارفَ وأصدقاءَ وأصحابٍ؛ يصومُ هذا العامَ دونَهم، وهم قد وُسِّدُوا في الترابِ؛ فليحمد الله، وليفرح بنعمة الله عليه {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون} [يونس:58].

ثانيا: الفرحُ والسّرورُ بقدومِهِ، والاستبشارُ والابتهاجُ بحلولِهِ؛ فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبشّر بهذا الشّهرِ الفضيلِ أصحابَه، ويُلوِّحُ لهم بالتّأهبِ له، وحسنِ استقبالِه واغتنامِه؛ فقد روى ابنُ أبي شيبة في (مصنّفه) (2/419)، والنّسائيُّ في (سننه) (4/129)، -واللّفظُ للأوّلِ- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ال نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يبشِّرُ أصحابَهُ: قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ؛ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ؛ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ».

قال الحافظ ابنُ رجبٍ الحنبليُّ -رحمه الله- في (لطائف المعارف) (ص/158): «قال بعضُ العلماءِ: هذا الحديثُ أصلٌ في تهنئةِ النّاسِ بعضِهم بعضاً بشهرِ رمضانَ».

وكان ابنُ عمرَ رضي الله عنهما يقول: «مرحباً بشهرٍ خيرٌ كلُّه؛ صيامٌ نهارُه، قيامٌ ليلُه».

ثالثا: عقدُ العزمِ على اغتنامِه في طاعة الله عزّ وجلّ، والتخطيطُ المسبقُ للاستفادةِ من هذا الموسمِ على الوجهِ الأكملِ، واستغلالِ جميعِ أوقاتِه في طاعةِ الله ومرضاتِه؛ فإنّ من صدَقَ اللهَ صدقَه، وأعانَه على طاعتِه، ويسّرَ الخيرَ لهُ، وقد قال عزّ شأنُه: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمّد:21]؛ فيا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ولا تقصِّرْ في عبادةِ اللهِ عزّ وجلّ.

وخيرُ ما عمر به المسلم من الطّاعةِ وقتَه في هذا الشّهرِ الكريمِ، هو ما كان يعمرُ به وقتَهُ النبيُّ عليهِ أفضلُ الصّلاةِ وأزكى التسليمِ، وقد لخص هديَه في ذلك ابن القيم -رحمه الله- في (زاد المعاد) (2/30)؛ فقال: «وكان من هديِه صلى الله عليه وسلم في شهرِ رمضانَ: الإكثارُ من العباداتِ؛ فكان جبريلُ عليه الصلاة والسلام يدارِسُه القرآنَ في رمضانَ، وكان إذا لقِيَه جبريلُ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ المرسلةِ، وكان أجودَ النّاسِ، وأجودَ ما يكونُ في رمضانَ؛ يُكثرُ فيه من الصّدقةِ، والإحسانِ، وتلاوةِ القرآنِ، والصّلاةِ، والذِّكرِ، والاعتكافِ، وكان يخصُّ رمضانَ من العبادةِ بما لا يخصُّ غيرَه به من الشُّهورِ…».

رابعا: من حسنِ استقبالِ هذا الشّهرِ الكريمِ، والاستعدادِ للاستفادةِ من هذا الموسمِ العظيمِ: أن يتفقّهَ المسلمُ في أحكامِ رمضانَ، ويعرفَ مسائلَ الصِّيامِ، ويعلمَ أركانَه، وشروطَه وواجباتِه، وآدابَه، وسننَه، ومفسداتِه؛ ليكونَ المسلمُ على بصيرةٍ من أمرِه، ويعبدَ اللهَ تعالى على علمٍ من دينِه؛ إذْ لا يُعذر أحدٌ بجهلِ الفرائضِ الّتي فرَضَها اللهُ على عبادِه، وقد قال سبحانه: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [ النّحل: 43]، وجاء عند البخاري ومسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

خامسا: من خير ما يُستقبل به شهرُ رمضانَ: العفوُ عن النّاسِ والإحسانُ، والبرُّ وصلةُ الأرحامِ، وتطهيُر القلوبِ من أدرانِ الأحقادِ والبغضاءِ، والحسدِ والغِلِّ والشّحناءِ؛ حتّى تصلحَ القلوبُ، وتنتفعَ بما ينزلُ عليها من السّماءِ، وتستحقَ المغفرةَ والرحمةَ من ذي الجلالِ والكبرياءِ {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [الأنفال:1].

سادسا: التّوبةُ النّصوحُ من كلِّ ذنبٍ وعصيانٍ، فإنّ الله تعالى قد حثّ عبادَه على التّوبةِ إليه، واشترط فيها أن تكونَ نصوحاً؛ فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التّحريم:8].

وإنّ التّوبةَ لا تكونُ نصوحاً إلا بتوّفُّر شروطِها، وإنّ من أعظمِ شروطِها: الإخلاصَ لله تعالى فيها، والإقلاعَ عن المعصيةِ بعد الاعترافِ بها، والنّدمَ على ما سلف وكان منها، وعقدَ العزمِ على عدمِ الرجوعِ إليها، وردَّ المظالمِ إلى أهلِها، أو طلبَ المسامحةِ من أصحابِها إذا كان الذنبُ يتعلّقُ بحقوقِ المخلوقين.

وليحذرِ المسلمُ من أن ينويَ توبةً مؤقّتةً في رمضانَ؛ لينقضَها، ويرجعَ إلى المعصيةِ بعد رمضانَ؛ فإنّ هذه النيّةَ مانعةٌ من قبولِها.

وأخيراً: علينا أيُّها الأخيارُ أن نحسنَ استقبالَ ضيفِنا الكريمِ، وأن نريَ الله تعالى من أنفسنا خيراً في هذا الموسمِ العظيمِ، ولنتُبْ فيه من الذُّنوبِ والسيّئاتِ، ولنكثِر فيه من نوافلِ الطّاعاتِ؛ من ذكر، وتلاوة وصلاةٍ، وصدقات، وغيرها من الأعمال المستحبات؛ عسى أن يصيبَنا ما في هذا الشهر من خيراتٍ ورحماتٍ، ولنحذرْ من تضييعه بالغفلةِ والإعراضِ؛ كحالِ الأشقاءِ الّذين نسُوا اللهَ فأنساهُم أنفسَهم؛ فلا يستفيدون شيئاً من مرورِ مواسمِ الخيرِ عليهم.

ورحم الله من قال:

يَاذَا الّذِي مَا كَفَاهُ الذَّنْبُ فِي رَجَبٍ              حَتَّى عَصَى رَبَّهُ فِي شَهْرِ شَعْبَـانِ

لَقَـدْ أَظَلَّكَ شَهْرُ الصَّـوْمِ بَعْدَهُمَا              فَلا تُصَيِّرْهُ أَيْضاً شَهْرَ عِصْيَــانِ

وَاتْلُ الْقُرَانَ وَسَبِّحْ فِيـهِ مُجْتَهِـداً              فَإِنَّـهُ شَهْــرُ تَسْبِيــحٍ وَقُـرْآنِ

وَاحْمِلْ عَلَى جَسَدٍ تَرْجُو النَّجَاةَ لَهُ              فَسَـوْفَ تُضْرَمُ أَجْسَادٌ بِنِـــيرَانِ

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *