كنا نقول أحيانا في وصف بعض النفوس اللاهية العابثة بأنها نفوس ذبابية باعتبار ما تعمله ووفق ما يشاكل كدحها اليومي ومرادها العمري، وقد يكون في هذا الوصف مزايدة على الهموش والذباب من باب كون هذا الذباب كثيرا ما كان يخرق قواعد الاطراد فيسقط على كأس مفعم بالعسل أو كوب مملوء بالحليب أو فاكهة مما تتخيره الأنفس وتلتذ برؤيته المقل، وربما كان هذا من جنس ما استدرك به ربنا جلّ جلاله حينما وصف بعضا من خلقه بالأنعام عند قوله ناسخا لهذا القران: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، وأي ضلالة يا ترى أكبر ولا أعظم من أن تجد بعضا من الناس قد نذروا حياتهم لنصرة الباطل والانتصار لكل مقدور تأنفه الأنعام وتتبرم عن صوبه هالة الهموش والذباب؟
فلقد بلونا خبرهم فأخرجنا هذا البلاء من دائرة الرجم بالغيب، فتأكد لنا أن القوم لهم نفس طويل وسبق إصرار وتمادي ترصد في خصومتهم للحق والسعي وراء ظله وأهله سعيا لا يبقي ولا يذر، فكانوا على الحق والصدق معاول هدم تحصر بنياننا وتقعد للمصلحين عند كل مرصد، لقد كانوا بامتياز أبواقا سمجة عملت ولا تزال تعمل على تهجين معاني الحق وتمثلات الصدق؛ أبواق جعلت التفاهات من الضروريات، والأصول والمعتقدات من الأعراف والخرافات، بل صارت الجاهليات مركب نجاة ومحراب عبادات، وصارت الفضائل والمثل والأخلاقيات تعصب وظلامية واعتساف مخالفات.
لقد تبين بالملموس والمسموع والمرئي أن غاية القوم ومحراب حركتهم خلخلة المفاهيم القيمية المترسخة في المجتمع الإسلامي من طهر وعفاف وأخوة وتكافل وتراص، ولم يكن مشروع بديلهم إلا المناداة ليلا ونهارا سرا وجهارا إلى الفوضى والعبثية والإلحاد والمجون باسم الحرية والكونية والإنسانية والحقوقية والمدنية وهلم جرا من آليات الفحش الاستغرابية، لقد كانوا بامتياز من جنس من قال فيهم الله عز وجل ومن أصدق من الله قيلا{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (إبراهيم:28-29).
فإلى الله نشكو جلد هؤلاء، وعجز الذين أثر فيهم الأكل فغيروا الشكل وكانوا والمعركة الفكرية والمواجهة التراثية حامية الوطيس من صنف أولئك الخوالف الذين قالوا بيوتنا عورة وما هي بعورة، فاصطفوا وراء أهل الأعذار، و يا ويلهم وهم واقفون بين يدي الله الواحد القهار، يوم يقدمون عليه مفلسين مع قوة الحجة عليهم، حجة العلم الذي ورثوه فلم تتجاوز تركته في نفوسهم سقف النبوغ المعرفي والثقافة النصية التي لم يجاوزوا بها عتبة العلم إلى منزلة العمل ومدرج الدعوة ولوازمها من صبر وغربة وإذاية، وثبات عند منعرج التصدي إلى ركام فساد المفسدين الذين نضحت منابرهم الضرار بشعارات من قبيل: “الدين لله والوطن للجميع”، و”إرادة الشعب من إرادة الله”، وهو عين ما أخبر به الله عند تعرض القرآن لسيرتهم الجفائية: {فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا}.
ثم خلصوا نجيا إلى قاعدة أسسوا عليها عرى علمانيتهم ورفعوها أمام كل مشروع إصلاحي نجيب، تلك هي قاعدة: “الدين علاقة بين العبد وربه ولا شأن له في أمور الحياة”، وعدوا بعد هذا التأسيس والتنصيص أي حركة أو نفس منفوس خارج إطار الشعيرة قد تسور محراب المحرم وتجاوز الخط الأحمر، الذي من وقع في حماه انهالت عليه التهم، وترادفت عليه الأنباز من تطرف وأصولية ووهابية وطالبانية وظلامية، فكان العزل وكان التجريد ولربما وصل الحال وقد وصل إلى التجريم والأخذ في ظلمات ثلاث.
وهكذا حبس الدين في ضمير الفرد ووجدان الأمة، ولم يعد من المسموح لاستيعابيته احتواء سلوك وحركة المجتمع إلا في أضيق الدوائر وأحجر الضوابط كالإرث ومدونة الأسرة؛ وهي حصون نجد اليوم من يريد من العلمانيين اقتحام عقبتها، والتسلل على غير لواذ إلى حرمتها بكل جراءة وصفاقة، موثرا على كمالها وتمام نعمتها ما راكمته المدنية الغربية من القوانين وضعية وضيعة باسم حرب النساء وحقوق الإنسان وأفضلية القوانين الكونية والمسلمات التي جرب الغرب ترياقها، وفي هذا يقول “ألفرد هوايت هيو”: “ما من مسألة ناقض العلم فيها الدين إلا كان الصواب بجانب العلم والخطأ حليف الدين”، ناسين أو متناسين أن هذا القول إن صح بين العلم واللاهوت الكنسي في أوربا، فإن العقل والنقل والواقع يدفعه ويكذبه فيما يخص الإسلام، ذلك الدين القيم الذي بلغت بيضاؤه في نفوس الذين تربوا في كنفه إلى أن يصدعوا بشهادة في حقه تنأى به عن مزايدة المزايدين وسفاهة المنافقين.
تلك هي شهادة أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي أنقذهم به الله من الشر والجاهلية إذ قال: “ما أمر (الإسلام) بشيء؛ فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء؛ فقال العقل: ليته أمر به”، وقد جاءت الشريعة الغراء على وفق الفطرة فلم يزغ عنها إلا زائغ قد اجتمعت عليه كلاب الشهوات وسهام الشبهات، فكان أن أردته قتيلا يمشي بين الناس تحسبه ذا شأن لكنه في حكم الشرع جيفة نطيحة.
والإسلام كدين جمع الله له من الخصائص والمبادئ المستعوبة لعلاقة العبد بربه وبغيره وبكل مناحي حياته، لا يمكنه إلا أن يرفض هذه الأمراض الوافدة من بلاد الصقيع وعلى رأسها العلمانية، من جهة كونه يرى فيها بوابة لولوج مستنقع الإلحاد والتفسخ والفساد؛ مستنقع إنكار الغيب والحساب وقطع الصلة بعرى الإيمان التي بزعم القوم تنسف في الإنسان روح المبادرة المتحررة، وتقتل في ذاته الشعور والحاجة إلى اهتبال طاقاته الغريزية، وتعطل فيه عجلة السعي وراء استبداد هواه واستعباد طبعه الجانح.
والعلمانية اليوم ومن ورائها العلمانيون يعيشون حالة احتضار مادي وإفلاس معنوي، بعدما تبين فشل مشروعهم النظري الذي كان يرسم على ظهر المنبهرين به لوحة سريالية لمجتمع طوباوي تتحكم في زمام حركته مبادئ الحرية والعدل والمساواة، وتطلق فيه الأعنة في سباق نحو الإبداع الإنساني الذي من شأنه أن يخرج إلى الوجود كل ما يخدم الإنسان ويخدم محيطه ويحقق له الحياة الطيبة السعيدة، فإذا بهذه الأماني وأحلام اليقظة قد انقلب نور سراجها إلى غاسق قد وقب بكل شروره يبغي الإفساد ويروم الكساد، وها نحن نرى تجليات هذه الحرية التي كانت عماد فكره قد انقلبت إلى دفاع عن الإلحاد والعناد والمثلية والسفاح الذي يحط من كرامة الإنسان ويستعبده ويجعله يرضى بالفحش في أصوله وأقرب الناس إليه في دياثة قلّ نظيرها حتى في عالم البهيمة.
وانظر إلى ضجيج هؤلاء المتنورين وهم يدافعون عن هذه القبلة التي رفض وزير مغربي أن يتماهى مع زورها وهو يركب السماء، وكيف حولوا هذا الرفض إلى تطرف ومؤاخذة أسيل حولها الكثير من حبر المجون، وسطرت لأجلها العديد من أعمدة الدياثة والعنوسة، وكان فيها الديوث ظهيرا للعانس، كما كان فيها العصيد توأم الأكحل السعيد، وقائمة الذين يبغونها عوجا طويلة، قد نال منها الإجهاد ولحقها الفشل والإخلاد في مشروعها السرابي؛ مشروع قياس ظلم الكنيسة بعدل الإسلام، وإسقاط ظلامية البابوية والكهنوتية على نور الشريعة الغراء.
وهم في هذا التباكي والصياح المأجور تنتابهم بين الفينة والأخرى يقظة تدليس، فيسارعون إلى استصغار كل فعل من جنس هذا الرفض العفيف والطهر الخفيف، مقابل ما يقع من باب ترتيب الأولويات في دائرة المسؤولية على عاتق وزير في حكومة ملتحية سمحت لها العلمانية والعلمانيون على مضض في أضيق دوائر الاختصاص بإدارة شؤون البلاد والعباد، وما يلزم من هذا التكليف من حمل أسفار تجاوزات وفشل الحكومات العلمانية التي تعاقبت على شدنا إلى الوراء.
تكليف حظيت في مقابله سخائم العلمانية بتشريف يبوئها منزلة الغيور الحسيب، ويفتح أمام أقليتها المتغطرسة مع كل طرح وبناء صرح يقظة الرقيب العتيد، ومع كل هدم ونسف وزيغ انتصار المنافق الرزين الجانح الجارح القوي الأمين، وهو انتصار وجنوح يحيلنا إلى العود صوب البدء لتقرير حقيقة نطق بها الصادق المصدوق، وأثبتها العلم التجريبي؛ تلك هي حقيقة أن للذباب جناحا فيه الداء، وجناحا فيه الدواء والشفاء، وهي إشارة تغنيك عن ألف عبارة في باب المقارنة والتفريق بمفرق البراءة بين غمس الذباب وضجيج مخبولي الألباب.