إن الأمم الناهضة تحتاج نفوسها إلى الغذاء الجَيِّد من الأخلاق والسجايا؛ لتقوى به على مواصلة النهوض إلى المعالي، كما تحتاج أجسامها إلى الغذاء الجيد من الطعام؛ لتقوى به على مواصلة الكفاح في سبيل المعايش.
والشجاعةَ غذاءٌ من أغذية الأمة في طور التحرير لا يتهاون به إلاَّ صغار النفوس، والذين يستعذبون موارد العبودية، وإن لم تفرض عليهم.
وأصل الشجاعة أَنْ تعرف الحق: حق الله، وحق الأمة، وحقوق المواطنين، وحقك الشخصي، فتوطن نفسك على أن تكون صادق العزم في إعطاء كل ذي حق حقه بالعدل والإنصاف.
وقد أوصى المسلمين بأن يكونوا أهل الشجاعة في مواقف الدفاع عن الحق ماداموا يرجون لهذا الحق العزة والاستعلاء؛ فقال -عز وجل- في سورة النساء: [وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] النساء: 104.
فأرشدهم الله إلى أنهم بما يرجون من إقامة الحق ومعونة الله عليه ينبغي لهم أن يكونوا أبعد من أعداء الحق عن الوهن والضعف؛ لأنَّ المؤمن الذي يرجو الحق، ويعيش له، ويَعُدّ نفسه لإعلانه ونصرته يجب أن يكون من أبعد الناس عن الوهن في سبيله.
ومن هُنَا يتبين لنا أن الشجاعة العسكرية وليدة الشجاعة الأدبية؛ لأنَّ كِلاَ نوعي الشجاعة منبعث عن الولاء للحق، وتوطين النفس على إقامته ونصرته.
وإنَّ الرجل الشهم الذي يُوَطِنُ نفسه على الدفاع عن الحق، ويؤدي الشهادة الصادقة على نحو ما علم دون أن يهاب ذا جاه أو سطوة لا يقل عن البطل الصنديد في موقفه بساحة الحرب أمام نيران العدو مدافعاً عن حق أمته وملته ووطنه.
إن المسلم الذي يعلم أنه لم يكن مسلما إلاَّ بشهادة الحق “لا إله إلا الله” يُوَطِّن نفسه على أَلاَّ يشهد إلاَّ بالحق ولو على نفسه وعلى والديه في كل المواقف، متمثلاً دائما في ذهنه أمر الله -عز وجل- للمسلمين [وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ] البقرة: 283.
ولما رَبَّى الإسلام أبناءه على إقامة الحق، ونصرته، ومحبته، والشهادة به، والإعانة عليه رَبَّى فيهم بهذه السجية خلقَ الشجاعة في النفوس؛ فأخرج منهم أمة لا تهاب الخطوب، وترى الموت في سبيل إعلاء كلمة الحق خيراً من ألف حياة يقضيها صاحبها في مشاهدة الباطل يمشي في الأرض مرحاً.
انظروا إلى قول الخليفة الأول أبي بكر الصديق في وصيته لقائده العظيم خالد بن الوليد “احرص على الموت توهب لك الحياة”.
فباقتحام موارد الموت في سبيل إقامة الحق، تبرهن الأمة على أنها جديرة بالحق، وبهذا نكون من أهل الحياة، وأن الشهداء من رجالها أحياء عند ربهم، وأحياء في قلوب عباده، والذين لم ينالوا منهم نعمة الشهادة يتمتعون بالحق وبما يفيضه عليهم الحق من نعمة الحياة، وإلى هذا المعنى يشير الفارس الشاعر حصين بن الحمام أحد بني سهم بن مرة:
لنفسي حياة مثل أن أتقدما تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
جلس القائد المجاهد الشهير مسلمة بن عبد الملك مع أخيه الخليفة الأموي هشام ذات ليلة، فقال له أخوه الخليفة:
يا أبا سعيد هل دخلك ذعر قط لحرب أو عَدو؟
فأجاب مسلمة: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه إلى حيلة، ولم يَغْشَني فيها ذعرٌ سلبني رأيي.
فقال له هشام: هذه هي البسالة.
ولما كان الحكم والسلطان في أسبانيا للخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر رفع أحد التجار قضية على الخليفة إلى القاضي الأكبر في عاصمة الأندلس قرطبة وهو العالم الفقيه الورع ابن بشير، فحكم ابن بشير للتاجر على الخليفة، ولم يكتف بإصدار الحكم، بل كان حريصاً على سرعة تنفيذه، فذهب إلى الخليفة يخبره بنص الحكم الذي صدر عليه، وينذره بالاستقالة من القضاء إِنْ لم يبادر الخليفة بالتنفيذ.
وحتى في أحط أدوار الدولة العبيدية بمصر دخل الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي على الملك الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الجمالي وكان الأفضل وزير مصر للمستنصر والمستعلي والآمر، فتكلم الطرطوشي موجهاً الموعظة والنصيحة للملك الأفضل، ولاحظ في أثناء موعظته أنَّ إلى جانب الملك رجلاً لا يؤتمن على الدولة، ولا تهمه مصلحة الملة، فختم الطرطوشي موعظته بالحديث عن ذلك الرجل غير المؤتمن وأشار إليه بيده، فلم يكن من الملك الأفضل لما استشعره من صدق الإمام الطرطوشي وغيرته على الحق وشجاعته في إعلانه إلاَّ أن أمر ذلك الرجل الجالس إلى جانبه بأن يتنحى عن ذلك المقام.
إن الأمة الضعيفة المستكينة لا تستحق الحياة، وهي لا تقوى وترتقي وتعتز إلاَّ إذا شاع في أفرادها ولاسِيَّما شبابها، خصوصاً المثقفين منهم خلق الصدق، ومحبة الحق، وتوطين النفوس على نصرته، والصراحة فيه، والدفاع عنه.
ومن هذا الخلق يولد الجيش الباسل الذي لا يغلب، بل من ذلك الخلق يولد الجيل الفاضل الذي لا يطمع في حق غيره، ولا يطمع غيره في حقه.
والحق شطر الإسلام، بل هو عظامه التي تقوم بها بنيته، أَمَّا الشطر الآخر فهو الخير، وهو في مقام اللحم والشحم من بِنْيَة الإسلام.
ولم يرد في الإسلام أمر ولا نهي، إلا وهو يرجع إلى شعبة من شعب الحق، أو إلى شعبة من شعب الخير.
والمسلمون لن يعودوا كإخوانهم الذين حملوا لواء الحق، ونشروا قانونه في الأرض إلاَّ إذا تضلعوا من معين الحق، وارتووا من موارد الخير، فأصبحوا يعرفون بين الأمم بأنهم أمة الحق والخير.
وحينئذ يكون منهم الجيش الغالب الظافر الذي يقتحم كل عقبة تحول بينه وبين الحق، ويجتاز كل مَخاضة تمنعه من الوصول إلى أهداف الخير.
وكما ينبغي أن يجهز الجيش بالدبابات والمدافع الضخمة والطائرات النفاثة والقنابل الذرية فإن كل هذه المعدات لا تنفعه إن لم يُسْتَمد جنوده وضباطه من أمة تربَّت على الصدق، وآمنت بالحق، ووطنت نفسها على محبة الخير.
بل إن تجهيز الأمة بسجية الصدق، وتربيتها على الإيمان بالحق، وعلى الإيمان بالخير هو الذي ييسر لها الأسلحة من كل نوع، والأنصار من كل أمة، وهو الذي يملأ بالهيبة والحرمة لها قلوب الأمم جميعاً.
وهكذا الأخلاق لا تزال معيار الأمم، وهي مفتاح الأماني المغلقة، وهي السبيل إلى استرداد الحقوق، وتيسير السبل إليها.
إن إعداد شباب الجيل بسجية الصدق، وتربيتهم على الإيمان بالحق، وعلى محبة الخير عنصر من عناصر الإسلام.
ولقد صرنا الآن إلى عهد قام بالأخلاق، وهو في حاجة إلى الاستعانة بجيل يؤمن بالأخلاق.
والمصانع المصرية لتربية الأخلاق، هي معاهد العلم الذي يتوقف عليها نجاح هذا المعهد، ويكون لأمتنا منها الجيش الظافر، الذي هي بحاجة إليه في مصيرها القريب، وكل يوم تضيعه معاهدنا العلمية، وتحجم فيه عن البدء في مناهجنا الصالحة يكون خسارة على الأمة، وعلى حقوقها.
إن الأمر جد، والوقت أثمن من أن يضيع بغير عمل.
للشيخ العلاَّمة محمد الخضر حسين
أحاديث في رحاب الأزهر ص: 68-71،
والدعوة إلى الإصلاح ص: 130-133.