الجنة مصير أهل الإيمان والتقوى وهي وعد رباني حق وعهد إلهي صادق، يقول الله تعالى: “قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا” الفرقان:15، ويقول عز وجل: “وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ ما يَشاؤُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ” ق:31-35.
فغاية المسلم في هذه الدنيا رضا الله عز وجل بالعمل الصالح، وهدفه الذي يسعى إليه في الآخرة هو الفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، أعدها الله لعباده المؤمنين المتقين، يقول تعالى: “سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ” آل عمران:133.
وتحقيق هذا الفوز يقتضي المسارعة وعدم التراخي في السعي إليه، تلبية لدعوة الله عز وجل في قوله تبارك وتعالى: “وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ” البقرة:221. ودعوة الخالق تعالى لعبده في عمومها تستوجب التلبية على الفور وتستلزم التنفيذ في الحال، فكيف بها لو كانت تخص الإقبال على نعيم مقيم والإتيان إلى مقام كريم، يقول الله تعالى: “سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” الحديد:21.
يقول الإمام القرطبي: “أي: سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل: سارعوا بالتوبة، لأنها تؤدي إلى المغفرة.. وقوله: “عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ”، يعني جميع السماوات والأرضين مبسوطتان كل واحدة إلى صاحبتها. وقيل: يريد لرجل واحد أي: لكل واحد جنة بهذه السعة..” الجامع لأحكام القرآن:17/232، جنة خصها الله عز وجل بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما ورد في الحديث القدسي: ” يقول اللهُ: أَعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ. فاقرُأُوا إن شِئْتُم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} وفي الجنةِ شجرةٌ يَسِيرُ الراكبُ في ظلِّها مائةَ عامٍ، لا يَقْطَعُها..” سنن الترمذي:3292.
ويقول جل ذكره: “مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ” محمد:15. كل ذلك ترغيبا فيها وحملا للعباد على العمل والإعداد لها، لتكون هدفا يستحق الاجتهاد لأجله وحافزا لمضاعفة الطاعات والاستزادة من صالح العبادات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر” صحيح الترغيب:1550.
ولا يتأتى هذا الفوز الكبير ولا ينال هذا المطلب العظيم، بدون تضحيات ومن غير تكبد للمشاق وتحمل للأذى المادي والنفسي والبدني، يقول الله تعالى: “إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّة” التوبة:111.
وفي حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم، يوم أحد: “أرأيت إن قُتِلتُ فأين أنا؟ قال: “في الجنة”، فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قُتِل”. اللؤلؤ والمرجان، فيما اتفق عليه الشيخان ص:495، رقم الحديث:1241.
فسلعة الله تعالى غالية، لا تدرك ببساطة ولا تنال بيسر، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ” صحيح الجامع:6222.
فالعبد الذي يرجو رحمة الله تعالى ويخاف عذابه يضع الجنة نصب عينيه، ويسعى إليها بكل الوسائل التي توصل إليها، فيستحضر نعيمها وما أعده الله فيها في حركاته وسكناته، وفي ذات الوقت يحذر عذاب الله تعالى ويستعيذ من نار جهنم، ويجتنب كل ما يقرب إليها من قول وعمل، يقول الله عز وجل: “وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَى أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ” الرحمان:46-54. فالله تعالى يدعو إلى الرحمة والسلام والطمأنينة، يقول الله تعالى: “وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” يونس:25.
يقول الإمام القرطبي: “إن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا بل يدعوكم إلى الطاعة لتصيروا إلى دار السلام، أي إلى الجنة. قال قتادة والحسن: السلام هو الله، وداره الجنة؛ وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات..” الجامع لأحكام القرآن، 8/242.
دعوة إلى الأمن والسلام قبل التخويف من العقوبة والعذاب، يقول الله تعالى: “أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ” الإسراء:57. يقول البغوي: “وقوله.. “ويرجون رحمته”: جنته، “ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا”: أي يُطلب منه الحذر” تفسير البغوي:5/102.
وبتصوير بليغ يصف لنا القرآن الكريم مشاهد فوز السعداء برضوان ربهم، وتتويج ذلك الرضوان بدخولهم جنة الخلد، حيث لا خوف ولا حزن ولا نصب بعد ذلك اليوم، وإنما نعيم أبدي ورغد سرمدي، يقول رب العزة: “وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ” الزمر:73-74.
نَفَس أهل تلك الدار حمد وتسبيح وقلوبهم ملئها المحبة والتآخي، جزاء بما صبروا على بلاء الدنيا وفتنها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ أهلَ الجنةِ يأكلون ويشربون، ولا يتْفُلون، ولا يبولُون، ولا يتغوَّطون، ولا يتمخَّطون، ولكنْ طعامُهم ذلك جُشاءٌ، ورَشْحٌ كرشْحِ المسكِ، يُلهَمون التَّسبيحَ والتَّحميدَ، كما تُلهَمون أنتم النَّفَسَ” صحيح الجامع: 2029.
ويقول الحق سبحانه: “وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ” الحجر:47.
اللهم اجعلنا من أهل الجنة ويسر لنا جميع ما يُقرِّب إليها من قول وعمل، وأجرنا من النار واصرف عنا جميع ما يُقرب إليها من قول وعمل.
والحمد لله رب العالمين.