إن لغتنا العربية هي ركن ثابت من أركان شخصيتنا، يحق لنا أن نفتخر بها ونعتز بها. ويجب علينا أن نذود عنها، ونوليها عناية فائقة، ونؤمن بقوتها وغزارتها ومرونتها وقدرتها على مسايرة التقدم في شتى المجالات. كما أنها تعد مقوماً هاما من مقومات حياتنا وكياننا، وهي الحاملة لثقافتنا ورسالتنا، والرابط الموحد بيننا، والمكون لبنية تفكيرنا، والصلة بين أجيالنا، والصلة كذلك بيننا وبين كثير من الأمم.
إن اللغة تعد حلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. إنها تمثل خصائص الأمة، واستطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أمم شتى كان العرب نواتها الأساسية والموجهين لسفينتها .
إلا أن مَن يستقري حال هذه اللغة المباركة بين أبناء بلدنا الحبيب، ودرجة اهتمامهم بها وتعلمهم لها، ليشعر بكثير من الحزن والأسى. وخاصة مع بروز لغة جديدة للتواصل في شبكات التواصل الاجتماعي، وكذا في الرسائل النصية الهاتفية، ليست بالفرنسية ولا العربية ولا الدارجة ولكنها خليط من هذا وذاك. أضف إلى ذلك الدعوات الأخيرة لبعض أدعياء الثقافة لاعتماد الدارجة في المقررات الدراسية عوض اللغة العربية.
ومن هنا، وجدت أنه من اللازم أن أعرج، ولو بشكل سريع، على أهمية اللغة العربية، وعلاقتها بالعلوم الشرعية.
1. أهمية اللغة العربية
تبرز اللّغة العربيّة بوصفها لغة عالمية من بين 3000 لغة في العالم ، وهي تحتل المرتبة السادسة عالميا في تصنيف اللغات الحية بحسب منظمة الثقافة والتربية والعلوم الدولية “اليونيسكو” ، وهي اللغة الثانية في فرنسا وفي بروكسيل ومدن أوروبية عدة .
ولا يخفى على كل ذي لُبٍّ ما لهذه اللغةِ من أهميةٍ عظمى؛ ذلك أنها لغة القرآن الكريم ولغة السنة النبوية المطهرة. قال الله تعالى: (إنَّا أنزلناه قُرآناً عربيّاً لعلَّكم تعقلون) ، وقال أيضا: (إنَّا جعلناهُ قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون) ، وقال سبحانه في سورة الزمر: (قُرآناً عربيّاً غَيرَ ذي عوجٍ لعلَّهم يتَّقون) ، وقال عز من قائل: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِن المُنْذَرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِي مُبِين) . فهي إذاً جزء لا يتجزأ من ديننا، بل لا يمكنُ أن يقومَ الإسلام إلا بها.
وتعد اللغة العربية مفتاح الأصلين العظيمين: الكتاب والسنة، فهي وسيلةُ الوصولِ إلى أسرارهما، وفهم دقائقهما. وارتباط اللغة العربية بهذا الكتابِ المُنَزَّل المحفوظ جعلها محفوظةً ما دام محفوظًا، فارتباطُ اللغةِ العربية بالقرآن الكريم كان سببًا في بقائها وانتشارها، حتى قيل: لولا القرآن ما كانت عربية .
إن لغة اختارها الله تعالى لينزل بها خاتم كتبه، وينطق بها خاتم رسله، ويجعلها لغة العبادة لخاتمة رسالاته، لجديرة بأن تكون سيدة لغات العالمين .
وقد بلغت اللغة العربية الذروة حين نزل بها هذا النص الإلهي الذي أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير. ولا يوجد في أي لغة من لغات الأرض نص إلهي معصوم، غير محرف ولا مبدل، إلا العربية، التي شرفها الله بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بعد أن حرفت الكتب السماوية جميعها، بالأدلة القاطعة التي بينها العلماء قديما وحديثا. ولقد ضمنت العربية الخلود حين نزل بها القرآن الذي تكفل الله بحفظه فقال عز من قائل : (إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون) .
ولا يرتاب أحد من الباحثين اللغويين، قدامى ومحدثين، شرقيين وغربيين، في أن العربية من أقدم اللغات، وأقواها أصالة، وأوسعها تعبيرا، بل يذهب بعضهم اليوم، عن طريق ما يسميه بـ”التأثيل” و”الترسيس” ، إلى اعتبار العربية فوق اللغات الإنسانية قاطبة، فهي أم اللغات الآريات لا الساميات والحاميات فحسب .
ثم إن البيان الكامل لا يحصل إلا بها؛ ولذا لم ينزل القرآنُ إلا باللغةِ العربية. قال تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ ، فدلَّ ذلك على أنَّ سائر اللغات دونها في البيان. ولقد أوضح هذا المعنى أبو الحسين أحمد بن فارس، حيث قال: “فلما خَصَّ -جل ثناؤه- اللسانَ العربيَّ بالبيانِ، عُلِمَ أن سائر اللغات قاصرةٌ عنه، وواقعة دونه” .
أضف إلى هذا كله أن اللغة العربية مصدر عز للأمة؛ فهي لغةُ القرآن الكريم والسنة المطهرة. والاعتزازُ بها اعتزازٌ بالإسلام وبتراثه الحضاري العظيم. والأمَّةَ التي تهمل لغتَها أمةٌ تحتقر نفسَها، وتفرضُ على نفسِها التبعية الثقافية. وفي هذا السياق، يقول مصطفى صادق الرافعي رحمه الله:
“ما ذلَّت لغةُ شعبٍ إلاَّ ذلَّ، ولا انحطَّت إلاَّ كان أمرُه في ذَهابٍ وإدبارٍ. ومن هذا يفرضُ الأجنبيُّ المستعمر لغتَه فرضًا على الأمَّةِ المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمتَه فيها، ويستلحِقهم من ناحيتِها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عملٍ واحدٍ؛ أمَّا الأول: فحَبْس لغتهم في لغته سجنًا مؤبَّدًا، وأمَّا الثاني: فالحكمُ على ماضيهم بالقتلِ محوًا ونسيانًا، وأمَّا الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلالِ التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ .
ولهذا السبب عني السَّلفُ بعلومِ اللغة العربية، وحثُّوا على تعلمِها، والنَّهل من مَعينها:
– قال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “تَعلّموا العربيّة فإنها من دينكم” .
– وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن نفس اللّغة العربيّة من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” .
– وذكر الثّعالبي (ت429هـ) في كتابه “فقه اللّغة وسرُّ العربيّة”: “إنّ مَن أحَبَّ اللهَ أحبَّ رسولهُ، ومن أحبَّ النّبي أحَبَّ العَربَ، ومَن أحبَّ العربَ أحبَّ اللّغة العربيّة التي بها نزلَ أفضلَ الكُتبِ على أفضلِ العجمِ والعربِ، ومَن أحبَّ العربيّة عُنيَ بها وثابرَ عليها، وصرفَ هِمَّتهُ إليها” .
وللبحث بقية نرجئها إلى العدد القادم بحول الله تعالى وقوته.