يمكن أن نستخلص من الحقائق التاريخية والواقعية المتقدمة في الحلقتين الماضيتين حول علاقة السلفية والدولة، ومن التأمل في أصول وأدبيات السلفية ما يلي:
1- السلفية متجذرة في تاريخ المغرب وواقعه، عرفها منذ عرف الإسلام؛ منهاجا ضابطا للفهم والتطبيق، يصون الإسلام من الدعوات البدعية؛ كدعوة الخوارج والمعتزلة والشيعة وأهل الكلام والعقلانيين …
2- لم يزل العلماء والمصلحون -ومنهم ملوك الدولة العلوية- يسعون في تجديد الدعوة إلى السلفية، باعتبارها آلية ذاتية للإصلاح الديني وليست مذهبا دخيلا أو مستوردا من الشرق.
فالسلطان المجدد (1) سيدي محمد بن عبد الله توفي عام 1204 هـ والشيخ محمد بن عبد الوهاب كانت وفاته سنة 1206، وكان كل منهما يدعو للسلفية؛ ذاك في المغرب وهذا في المشرق، ولم يُثبت التاريخ اتصالا بينهما أو تقليد أحدهما للآخر.
كما أن مولاي سليمان عرف السلفية على يد والده ودعا إليها قبل اطلاعه على دعوة محمد بن عبد الوهاب، وذلك في حدود عام 1225.
وبهذا تبطل فرية سعيد لكحل وأمثاله الذين زعموا بأن الدعوة السلفية المعاصرة وليدة المشرق، وأنها مجرد امتداد لدعوة محمد بن عبد الوهاب…
3- السلفية متشبثة بثوابت الأمة المغربية وهي: الإسلام المعتدل على منهاج أهل السنة والجماعة، والبيعة لأمير المؤمنين، والوحدة الترابية.
وفي هذا السياق ترى السلفية – شرعا وحكمة لا نفاقا ومجاملة – أن مقام أمير المؤمنين له منزلته وخاصيته، وأنه يجب أن يوقر ويعز، لأنه رمز الوحدة والاستقرار، وعزه وسلامته عز للأمة وسلامة لها من الاضطرابات والعواصف المدمرة.
ومن هنا ترى ضرورة الاجتهاد في الدعاء له بالتوفيق والسداد وكل خير، والتعاون معه على إصلاح البلد وتنميته وترقيته، وترى حرمة الخروج عليه تحت أي تسويغ مزعوم.
وقد مضى في الحلقة السابقة ما يثبت سبق السلفيين في الغيرة على الوطن والتحرك لدحض المستعمر، وأن علماءها هم الذين أسسوا حركة جهاد المحتل.
4- ومن هنا فإن السلفية ضد كل من يهدد وحدة البلاد وأمنها؛ كالمنشقين الصحراويين وزعماء الأمازيغية المتطرفة، وغيرهم.
وفي هذا الصدد تنخرط السلفية في مشروع الدولة في محاربة التطرف وما يفرز من فكر وممارسات منحرفة؛ كالإرهاب بالقتل والتفجير وغيرهما، كما تحذر من التطرف العلماني، وهو غلو لا ديني يقابل الغلو الديني، وهما وجهان لعملة واحدة، وسببان من أسباب الإرهاب.
وغير خاف بطلان ما افتراه غلاة العلمانية من اتهام السلفيين بالإرهاب وتكفير الدولة! ومن ذلك زعم سعيد لكحل بأن السلفيين يعتقدون:
(تكفير المشروع المجتمعي الحداثي والديمقراطي الذي يقوده الملك بالتوافق مع القوى السياسية والمدنية الديمقراطية)!! .(2)
ويقول: (إن تكفير النهج الديمقراطي والاختيارات السياسية المبنية على التعددية الحزبية والنقابية والثقافية التي أجمع عليها المغاربة -نظاما وشعبا- منذ فجر الاستقلال، إن تكفير هذا النهج هو أخطر من حزام ناسف أو سيف مسلول) !!! .(3)
وقد علم القاصي والداني أن السلفيين من أبعد الناس عن التكفير، وسيأتي أن السلفية والإسلام ضد الحداثة كإيديولوجيا إلحادية، وليست ضد مشروع تحديث الدولة وتطويرها وإقامة المؤسسات الكفيلة بتنميتها وترقيتها، كما أن السلفية ضد مشروع العولمة الفكرية والثقافية الذي يريد حرمان الأمة من شريعتها وخصوصيتها باسم الديموقراطية وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، وقد تعاضدت المعطيات الإقليمية والدولية على بيان تآمر ساسة الغرب على الأمة وسعيهم لفرض رؤيتهم باسم الغيرة على حقوق الإنسان وإخراج الشعب من التخلف إلى المدنية والرقي، وهو عين ما كانت تدعيه فرنسا وتسوغ به استعمارها، ورفضه الأحرار والشرفاء، فما الجديد في موقف السلفيين؟
5- فالسلفية تشجع وتدعم مشروع تنمية البلاد وترقيتها بما يحقق التحديث التقني، والتطوير المؤسساتي، والرخاء والازدهار والتقدم، ولا يلزم من ذلك تبني الفكر الحداثي الإلحادي الإباحي.
أما موقف السلفيين من الممارسة السياسية فقد سبق شرحه في هذه السلسلة.
ولا شك أن الدولة وقعت -وتقع- في أخطاء لا يجوز شرعا إقرارها، وموقف السلفيين من تلك الأخطاء يتمثل في البيان والنصح بالتي هي أحسن، والمشاركة في إصلاح الفاسد بما يشرع من القول والفعل، وهي تنبذ مسلك التكفير والتفسيق وإثارة الغوغاء، وتراعي العذر بالجهل والإكراه ونحوهما من أسباب الوقوع في الخطأ.
6- وبناء على ما تقدم فإن السلفية تدعم كل نشاط لرفع المظالم عن المضطهدين والمستضعفين وتعويضهم وتمتيعهم بحقوقهم الشرعية، لكن تؤمن بقضية حقوق الإنسان التي تقوم على أساس التشريع الإسلامي العادل، وتحذر من حركة الهيمنة التي ألبست لبوس الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإنما تأخذ من ثقافة حقوق الإنسان العالمية ما يتماشى مع الأحكام الشرعية دون ما خالفها، وفي هذا السياق تحذر من الممارسات الحقوقية ذات المرجعية العلمانية الهادفة إلى تذويب الدين والهوية في منظور غربي أحادي يفرض نفسه عبر ثقافة حقوق الإنسان.
7- لا تعترض السلفية على الخصوصية المغربية الدينية المتمثلة في عقد الأشعري وفقه مالك وسلوك الجنيد، لكن تحذر من القراءة الانتقائية أو اللاموضوعية لهذا الثلاثي . (4)
وأما قول لكحل: (هل بقي من خروج على ولي الأمر أخطر من موقف الوهابيين من دعم الملك ورعايته للصوفية)؛ فاصطياد في الماء العكر؛ فالسلفية إنما تنتقد ما يتخلل التصوف من انحرافات لا يقرها شرع ولا عقل؛ كالدعوة إلى تقديس الشيوخ، وطاعتهم المطلقة، ودعاء الأموات والاستغاثة بهم والذبح لهم كما يفعل عند ضريح علي بن حمدوش في مكناس أو بويا عمر أو مولاي إبراهيم أو غيرها، فهل يقر ذلك كله عاقل أو منصف؟ وهل يقره الفكر الحداثي الذي يغار عليه لكحل؟
وهذا موقف شرعي علمي يمليه الواجب الديني، ويحتمه النظر في الدليل الشرعي بعيدا عن الموقف الحربائي: (دارهم ما دمت في دارهم)، وهو موقف غلاة العلمانيين الذين ليس عندهم ما يمنعهم من الانقلاب على ثوابت الأمة الدينية أو نظام حكمها، مما يجعلهم أولى بمحاربة الدولة لهم لولا تقوِّيهم بجهات معروفة.
تلك خلاصة الموقف السلفي من أهم اتجاهات الدولة المغربية الحديثة ومشاريعها الكلية، كما يدل على ذلك سبر الأصول التي يتأسس عليها المنهاج السلفي، واستقراء أقوال ومواقف علماء السلفية المعاصرين ..
ومن هنا نقول: ما دامت السلفية لا تمثل تهديدا للأمن بل هي صمام أمن وعامل استقرار، وما دامت لا تعارض مشروع الإصلاح والتنمية بل تؤيد كل تقدم وتحديث وتطوير يقود إلى الازدهار والرفاه في بلادنا، وهي قبل ذلك كله وبعده الدعوة التي تمثل استمرارية الإسلام الذي ترك الأمةَ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحذرها من تحريفه أو تأويله بقوله: “تركتم على البيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك”.
ما دامت هذه هي السلفية؛ فلا يجوز شرعا ولا عقلا معاداتها ولا إقصاء دعاتها، ولا يتصور من الدولة أن تفعل ذلك، اللهم إلا إن مكن فيها لأصحاب فكر استئصالي يجهلون تاريخهم وفقه الدعوة الإسلامية، ولا يؤمنون بمبدأ الحريات العامة والديمقراطية المزعومة إلا بظاهر من القول، ويهدفون إلى خدمة مشروع خارجي يفرضه أصحابه على الدولة، وتحشد له التعبئة الإعلامية الكفيلة بقلب الحقائق.
.. ومن هنا ندرك حجم الخطأ الذي وقع فيه وزير الأوقاف حين شن حملة على السلفية، موظفا في ذلك بعض أجهزة الدولة وبعض وزاراتها، محيطا ذلك بحملة إعلامية يلمع فيها الطرقية وينبز السلفية، وهذا شطط في استعمال السلطة وفرض للرأي وسعي للتحكم في سياسة الدولة بما يتنافى مع الحكمة و(الديمقراطية)، وهو أقل ما يوصف به حادث إغلاق سبعين دارا للقرآن، ما كان ذنبها إلا أن آمنت بالسلفية ذات الجذور الراسخة في بلادنا!
وأختم موضوعي: (السلفية والسياسة، والسلفية والدولة)، بكلمة لأحد كبار رجال السياسة في مغربنا المعاصر، وهي عبارة عن شهادة موضوعية قائمة على العلم والمعرفة الدقيقة بالسلفية المغربية تاريخا وواقعا:
يقول الدكتور عبد الهادي بوطالب(5) : “السلفية الحديثة لم تكن سلفية سياسية من نوع سلفية الأفغاني، بل كانت تعني العودة إلى الأصول الإسلامية متمثلة في الكتاب والسنة. وكانت ترفض الانتماء إلى الطرق والزوايا..، فهي دعوة إلى التوحيد الخالص وإلى عبادة الله بدون واسطة أو وسيط.
يمكن القول أن السلفية في المغرب وفي هذه الفترة كانت تقوم على أربعة أسس:
1 الاستقاء في التشريع من مصادر الدين الإسلامي الأولى.
2 فتح باب الاجتهاد لتطوير التشريع بما يواكب العصر.
3 مقاومة البدع والخرافات، وعدم تقديس أضرحة الأولياء وعدم التوسل إلى غير الله.
4 مقاومة أسلوب الطوائف والطرق خاصة التي كانت الحماية سخرتها للدعوة لها أو سخرتها لمناهضة حركة الإصلاح الوطنية”اهـ .(6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وقد اعتبر الأستاذ عبد الوهاب بن منصور مؤرخ المملكة السلطان محمد بن عبد الله مجدد الأمة على رأس القرن الثالث عشر. [في درس حسني ألقاه في 14 رمضان 1387 هـ].
[2] مقالة: [أخطار المد الوهابي على وحدة الشعب واستقرار الوطن]!
[3] المصدر نفسه.
[4] ينظر: مقالة: “نحو تمسك صادق بالثوابت الدينية”. [السبيل / ع54].
[5] كان أستاذا للملك الراحل الحسن الثاني، وقد تولى في عهده مناصب سياسية ووزارية عديدة.
[6] عبد الهادي بوطالب: [يومية المساء المغربية / العدد 643].