نقد لمقال : [راهنية التخييل عند الزمخشري،في مواجهة الفهم الحرفي للنص المقدس (القرآن)] طارق الحمودي

وقفات مع (مؤمنون بلا حدود)

يحاول بعض الكتاب المعاصرين من الشباب وغيرهم التنقيب في التراث الإسلامي القديم بحثا عن معتمد علمي لبعض النظريات التفسيرية للنص القرآني، وقد وجد بعضهم مبتغاه في الإنتاج التنظيري الكلامي الاعتزالي.
لكن مشكلتهم الكبرى أنهم يخوضون مجالا بدون عدة اصطلاحية أو مفاهيمية،ويعالجون قضايا تاريخية وفكرية بطريقة سطحية سريعة توحي بعدم الأهلية، فينتج عن ذلك توهم وإيهام للفهم،ولا تساعدهم المجملاتشبه الإنشائية في طريقة التلفيق، بسبب ضعف التحقيق.
حاول بعض الكتاب من (مؤمنون بلا حدود) أن يجد معتمدا نظريا لفكرة التوسع التأويليلنصوصالقرآن في نظرية التخييل عندالمعتزلة…والفلاسفة الإشراقيين…فأتى -ربما دون وعي منه- بما يثير إشكالات فكرية وعقدية حقيقية تؤول إلى لوازم خطيرة.
الكاتب «رشيد برقان»، أعطى لنفسه هذه الفرصة، فعرض فكرة التخييلالخطابي بطريقة مشوهة، معتمدا على التطبيقات المجاليةالزمخشرية في الكشاف.
ومن ذلك أنه عند تفسير قوله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) زعم أن ذكر الكرسي وسعته إنما هو تخييل وتصوير،وأنه لا وجود لكرسي ولا لقعود ولا قاعد..منظرا له بقوله تعالى (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)، فلا يمين ولا قبضة على الحقيقة، إنما ذلك نوع تصوير وتخييل!!!فاستشهد الكاتب بقول الزمخشري:
(ولا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب،ولا أنفع وأعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإن أكثره وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما. وما أتي الزالون إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير) .
الذي ينبغي أن ينتبه له قارئ المتون الحداثية، هو ما يسلكونه من الانتقائية في النقل، أو الغفلة عند الاقتباس، وقد ضرب لنا هذا الكاتب مثالا لنوع من المغالطات المعروفة عند هؤلاء، وهو تعميم من شأنه التخصيص، فالقارئ لاقتباسه عن الزمخشرييتخيلأن منهج التخييل عند الزمخشري يعم الخطاب البياني القرآني كله،وسبب هذا أن الكاتب فصل الرأس عن الجسد.
وبيان هذا أن الزمخشري قد بين المجال الذي تنطبق عليه نظرية التخييل، فقال في جملة سابقة -بفاصلة واحدة!- لاقتباس الكاتب منه:
(الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان، ولا تكتنهها الأوهام، هينة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب)، فانظر إلى عملية القص..الماكرة! فالزمخشري يخصص المجال بما تتحير فيه الأفهام والأذهان من الأمور الغيبية، والمقتبس يوسعه ويعممه على الخطاب القرآني كله، حُكْمِيِّه وقصصيه وأخلاقيه.
من هنا ينطلق الكاتب موسعا القصد والنظرية.. جاعلا إياها أساسا لما سماه (المفتاح لإدراك انفتاح القرآن وتحريره من لحظة ولادته، وجعله صالحا لكل زمان ومكان)،في استغفال للقارئ…كمن يعيد تركيب هيكل عظمي لديناصور منقرض من ضرس واحد في فكه العلوي الأيمن…!!
ولكن الذي لم ينتبه له الكاتب-أو انتبه له- وهو يتيه توهان من لا يرجع؛ هو العمق الفلسفيلهذه النظرية في لوازمها ومواردها،وقد تفطن ابن تيمية رحمه الله تعالى لهذه النظرية التخييليةفي الخطاب القرآن والنبوي فقال: (أهلالوهم والتخييل هم الذين يقولون إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر وعن الجنة والنار، بل وعن الملائكة بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه،لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به، ويتوهمون به أن الله جسم عظيم، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيما محسوسا وعقابا محسوسا، وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر، لأن من مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به، ويتخيلون أن الأمر هكذا. وإن كان هذا كذبا، فهو كذب لمصلحة الجمهور، إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريق.
وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم على هذا الأصل، كالقانون الذي ذكره في رسالته الأضحوية. وهؤلاء يقولون: الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها، وقصدوا أن يفهم الجمهور منها هذه الظواهر، وإن كانت الظواهر في نفس الأمر كذبا وباطلا ومخالفة للحق. فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب والباطل للمصلحة. ثم من هؤلاء من يقول النبي كان يعلم الحق ولكن أظهر خلافه للمصلحة) .
هكذا هي المسألة، بعيدا عن التجميل الفكريالذي حاوله الكاتب…فالخطر كان وراء ذلك كله..والعجيب أن الكاتب أصر على الخوض في هذا بطريقة أخطر..حينما استشهد بكلام لابن سينا في التخييل الخطابي،والذي أسس فيه الفيلسوف الإشراقي قانونه في ذلك بزعم أن المقصود من التخييل هو إحداث الانفعال في قلب المتلقي لا تحقيق التصديق عنده،ثم أحال الكاتب إلى (فن الشعر عند أرسطو) لعبد الرحمن بدوي…! مع أن كتاب الشفاء موجود ومطبوع!
إن مفهوم التخييل عند ابن سينا في حديثه عن الخطاب القرآني، والذي أسس به (قانونا) في كتابه (الرسالة الأضحوية) كما قال ابن تيمية،أكبر مما يتصوره الكاتب وأخطر، ولعله يقصده… فقد صرح ابن سينا بحقيقته وعمقه الفكري والعقدي، ومن ذلك قوله: (فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة لخطاب الجمهور بما يفهمونه، مقربا مالا يفهمون إلى أفهامهم، بالتشبيه والتمثيل) ..
وخطورة هذا الكلام لا تفهم إلا إذا عرف القارئ الكريم أن ابن سينا كغيره ممن يشبهه من الفلاسفة الإشراقيين يعتقدون أن الفيلسوف وهو من الخاصة أو خاصة الخاصة لا يشتغل بالتخييل والتمثيل النبويين، بل بالحقائق التي يستمدها عن العقل العاشر الفعال مباشرة، لا عن الرسول..وهذا لا يفهم إلا إذا تعرف القارئ الكريم مرة أخرى على نظرية الفيض الإشراقي عند ابن سينا بتجلياته الثلاثية…وهي تقوم باختصار على أن الله تعالى لم يرد الخلق ولم يخلق… بل تعقل في نفسه باعتباره عقلا وعاقلا ومعقولا بلا صفات…ففاضت عنه أفلاك وعقول ونفوس في تسلسل وتدرج إلى المخلوق الأخير الأبعدكما يفيض النور عن الشمس!!!
وخلاصة هذا أن بعض الكتاب يقع في سكر فكري، ويستسلم لحالة من الإغلاق، فلا يستفيق إلا على مصيبة من مصائب الفكر الإنساني.
أو لعل الكاتب يؤسس ويوطئ لإقحام الفيلسوف (المفكر الحداثي) في مشروع قراءة النصوص القرآنية على طريقة أسلافه الفلاسفة، بفتح باب التأويل على التخييل والرمزية وفق آليات العلوم السيميائية الغربية، بالتفكيك وإعادة البناء، وسلوك مسالك النسبية الدلالية، بفصل الدال على المدلول، وإعادة تدوير الناتج من التفجير الحداثي للنصوص، مع تشرد وتسكع كما يقول بعضهم.
كل هذا جعله الكاتب في مقابل (الموجة الفكرية المحافظة) أو (القراءة السطحية والحرفية) أو (موجة التسطيح والتهافت على المعنى الحرفي) أو (رؤية سلفية ماضوية) ويقصد من هذا كله كما قال: (التفسير بالمأثور)…وهنا يظهر بعض القصدالسيء من المقال كله…!
فهل يمكن أن تصح قراءة قرآنية يدعي فيها القارئ ويعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكذب على أصحاب الفكر المحافظ من سطحيي القراءة الحرفيين، فيصور لهم الأشياء على غير ما هي، فلا جنة ولا نار، ولا يوم آخر…وأنه لا يعرف حقائق هذه الأشياء إلا الله ورسوله..والمفكر الحداثي…؟
أعتقد أن هذا ضرب من التخييل والهلوسة الفكرية…فقد وصل الأمر ببعض هؤلاء إلى الزعم بأن الله تعالى لا حقيقة له..إن هو إلا تخييل يصنعه الوعي الاجتماعي، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *