كيف تنهض أمة انقسمت إلى شعبين؟ شعب استُبِيحَت وانتُهِكَت كلُّ حرماته؛ فشِفَاهُهُ بالخيط قد جُمِّعت فالكلام عليه محرَّم، وأيديه غلَّت وأرجله قد صفِّدت فالميادين عليه قد حرِّمت، وإن تجرأ على شيء من هذا، فله الرصاص مصبوب، وقنابل الغاز بلا حدود، ومن طال عمره فأمر الضبط والإحضار مكتوب.
وشعب تحميه الدبابات وتحرسه الطائرات، ويُكافَأ إن تكلَّم ويُمْدَح إن تحرَّك، ومرحبا به في كل الميادين، فالداخلية منهم ولهم والجيش مدافع عنهم.
كيف تنهض أمةٌ أحرارها في السجون، والعملاء في مناصب المسؤولية، والشرفاء في القبور، والعبيد في المروج يسعون في الأرض فسادا، ينهبون الثروات ويعملون على تقزيم الأمة؟ من أجل ذلك عنى الإسلام بالقضاء عناية عظيمة، فوصى بالقضاء بين الناس بالحق، وحذر من الجور واتباع الهوى.
فقال عز وجل: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (سورة ص: 26).
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ دَيْناً كَانَ عَلَيْهِ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلاَّ قَضَيْتَنِي؛ فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: وَيْحَكَ تَدْرِى مَنْ تُكَلِّمُ؟ قَالَ: إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلاَّ مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ؟ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا: إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرٌ فَنَقْضِيَكِ؛ فَقَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ فَأَقْرَضَتْهُ فَقَضَى الأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ فَقَالَ أَوْفَيْتَ أَوْفَى اللَّهُ لَكَ؛ فَقَالَ: أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ إِنَّهُ لاَ قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ» رواه ابن ماجة وصححه الألباني؛ وغير متعتع بفتح التاء أي مِن غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه.
يظنون أنهم يجمعون وفي الحقيقة يفرق الله جمعهم، ويظنون أنهم يعمِّرون وفي الحقيقة يخِّرب الله بيوتهم، ويظنون أنهم يزيدون أموالهم وينزع الله منها البركة.
محكمة الحق الإلهية
ولكن إذا فسد القضاء وخاب الأمل في قاضي الأرض، وضاع الحق في الدنيا فالفصل في القضاء بين يدي الله في محكمة الحق الإلهية، فهناك يوم للحكم والفرقان والفصل في كل ما كان، وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود، للفصل في جميع القضايا المعلقة في الحياة الأرضية، والقضاء بحكم الله فيها، وإعلان الكلمة الأخيرة والحكم النهائي البات.
{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (سورة المرسلات: 11-15) وفي هذا اليوم الويل لمن ظلم وبغى وتعدى وضيع حقوق المظلومين والضعفاء.
إذا ما الظلوم استوطأ الظلم مركبا ولـج عتـوا فـي قبـيـح اكتسابه
فكِله إلى صـرف الزمـان وعـدلـه سيبدو له ما لم يكن في حسابه
يوم الفصل ميقاتهم: يا أيها المظلوم صبرا {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (سورة الدخان: 41) {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} (سورة النبأ: 17-18).
يجتمع الظالم والمظلوم، والقاتل والمقتول، والجاني والمجني عليه، فتبلى السرائر وتظهر الحقائق ويعطى المظلوم حقه {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (سورة الأنبياء: 47).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَجِيءُ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِرَأْسِ صَاحِبِهِ -وفي لفظ: يَجِيءُ مُتَعَلِّقاً بِالْقَاتِلِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَماً- يَقُولُ: رَبِّ سَلْ هَذَا لِمَ قَتَلَنِي؟؛ وفي رواية: فَيَقُولُ قَتَلْتُهُ عَلَى مُلْكِ فُلانٍ» رواه أحمد وابن ماجه والنسائي، وصححه الألباني.