……………. …… والحكـم بذا محـتــوم
وملـح العـلـم بهـذا البـيــن ما كان راجعا لأصل ظني
أو قاطـع لكن مـا يتصـف بـه لـه عـن أصلـه تخـلـف
وشرطه استحسانه بالعقل ولا يخـل حـكـمـه بـأصــل
«والحكم بذا» الذي تقدم ذكره «محتوم» أي واجب من جهة الشرع، ومن جهة العقل.
ثم ذكر المصنف القسم الثاني: ملح العلم؛ فقال: «وملح العلم» عملا «بهذا البين» هو «ما كان» غير قطعي، وغير راجع إلى قطعي على الوجه الذي عليه القسم الأول، إنما هو ما كان «راجعا» في بنائه وأساسه «لأصل ظني» وهو ما يفيد الظن في ما يؤخذ منه من حكم، غاية ما ثبت به الرجحان بمرجح من الاحتمال الآخر المضاد له، وذلك كدلالة ظواهر الألفاظ على معانيها.
«أو» كان راجعا لأصل «قاطع لكن ما يتصف به» الأصل القاطع -القطعي- من الخواص الثلاثة المذكورة في القسم الأول «له» أي لما ذكر من الخواص «عن أصله» الذي يستند إليه قسم الملح هذا «تخلف» عنها، فهو لا يتصف بالعموم والاطراد، ولا بالثبوت، ولا بكونه حاكما.
«وشرطه» الأول الذي يتوقف عليه وجوده وتحصل به صحته هو «استحسانه بالعقل» إلا أنه لا يرجع إلا إلى الظن والتخمين، وذلك كالحكم التي يدعى بأنها مقصودة للشارع في الأمثلة الآتي ذكرها، «و» شرطه الثاني أن «لا يخل» أي يذهب «حكمه» ومقتضاه «بأصل» ثابت، فإن صادم حكمه وما أخذ منه أصلا عقليا أو شرعيا سقط العمل به.
ثمة باستخراج بعض الحكم فيمـا إلـى التعبـدات ينـتـمـي
مثـل المـقـدرات والهيـئـات ومثلـهــا تـعـيــن الأوقـــات
وذاك كالتعليـل في النـوادر بعد السماع باعتبـار ظاهـر
وربمـا يلـفـى بهـذا الـقـســم ما قد يرى كثالث في الحكم
«ثمة باستخراج» استنباط «بعض الحكم» جمع حكمة، والمراد بالحكم -هنا- الأسرار ومقاصد الشارع من وضع ما حكم به وقضاه على هيئات وحدود معينة «فيما» يعني في القسم الذي في الشريعة، «إلى التعبدات» أي ما تعبدنا الله سبحانه به مما ليس معقولا لمعنى «ينتمي» ينتسب.
وذلك «مثل المقدرات» شرعا، وهي ما وضع الشارع مقاديرها وحددها، كالطواف، وحجارة رمي الجمار وما أشبه ذلك، «والهيئات» المخصوصة كهيئة الوضوء والصلاة والحج، وغير ذلك من كل ما جعله الشارع على هيئة مخصوصة معينة، «ومثلها» في كونها مخصصة «تعين الأوقات» التي للعبادة، فإنها معينة مخصصة بذلك دونما سواها من الأوقات الأخرى.
فهذا كله استخراج الحكم التي بنى عليها كونها على هذه الصور والهيئات لا يكون مؤسسا إلا على التخمين، والظن فهو غير مطرد، «و» لا مبنى عليه عمل، بل «ذاك» الذي بنى من اعتبارات إنما هو «كالتعليل» الذي يساق «في» الجواب عن كون «النوادر» جمع نادرة، والمراد بالنوادر -هنا- الأمور الشواذ عن أقيستها، وذلك «بعد السماع» يعني ورود الأدلة السمعية أنها كذلك. وذلك التعليل الذي يساق في هذا الشأن يكون «باعتبار ظاهر» كما في أجرة الظئر وإسقاط الحد عن ابن سلول في قذفه لعائشة رضي الله عنها كما في قصة الإفك، وغير ذلك مما شذ، فبحث الناس عن الحكمة في كونه كذلك، فهذا درجته المعرفية تخمينية ظنية ضعيفة كالذي تقدم في تعيين حكم تخصيص العبادات بهيئات مخصوصة أو أوقات معينة.
«وربما» يوجد و«يلفى» «بهـذا القسم ما قد يرى» ما قد يعتقد أنه «كثالث» يعني كالقسم الثالث -وهو ما ليس صلبا ولا ملحا- الآتي «في» إفادته «الحكم» الـذي يؤخذ منه، أو في الحكم عليه؛ وإنما يرى كذلك لكونه منحطا عن درجة ما يعتبر من مقتضيات العقول، لأنه مبنى على أوهام وأمور لا رابط بينها وبينه -أي بين ذلك المبنى عليه- ولا نسبة تدل على اتصال ما بينهما محتمل.
بكونـه دعــوى بـلا دلـيــل تجني على المشروع بالتأويـل
ومنـه بـالـتــزام كـيـفـيــات في بعض الأخبار المسلسلات
إذ ترك ذاك الالتزام المتبع بمقـتـضـاه لا يـخـل إن وقـــع
ومنـه بالقصـد إلـى التـأنـق في أخـذ ما يحمـلـه من طـرق
يقصد باستخراجها التكـاثر في طـرق المروي لا التواتـر
ثم «بكونه دعوى بلا دليل» يدل على صحتها وهي التي من شأنها أنها «تجني على المشروع» أي على الشريعة «بالتأويل» الفاسد الساقط في الاعتبار، لأنه ثمرة وهم وظنون باطلة.
«ومنه» ومن أمثلة هذا القسم -وهو المثال الثاني- التمسك «بالتزام كيفيات» معينة «في» تحمل الأخبار والآثار، وذلك، كما عليه الحال عند المتأخرين في «بعض الأخبار» الأحاديث «المسلسلات» التي أتى بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد فالتزمها المتأخرون بالقصد؛ والمراد بالحديث المسلسل هو: الحديث الذي تتابع رجال إسناده على صفة واحدة، أو حال واحدة للرواة، أو للرواية، وله أنواع كثيرة حصلت من تعدد الرواة وصفاتهم وأحوال الرواية ووقوع الحديث على هذه الصورة ليس أمرا مقصودا لرواته لكنه وقع عليها، والمتأخرون يلتزمون ذلك ويقصدونه، فصار تحملها على ذلك القصد تحريا وقصدا له، بحيث يتعنى -يتعب- في استخراجها والبحث عنها بخصوصها، مع أن ذلك القصد لا يبنى عليه عمل.
«إذ ترك ذاك الالتزام» الذي عليه المتأخرون «المتبع» عندهم «بمقتضاه» أي ذلك الحديث وحكمه «لا يخل» أي لا يذهب «إن وقع» وحصل، وذلك لأن تخلف هذا الأمر الملتزم به في أثناء تلك الأسانيد لا يقدح في العمل بمقتضى تلك الأحاديث. فغاية ما يفيده التسلسل هو: اتصال حلقات الإسناد مع ما اقترن به من صفة خاصة، وذلك يقوي معنى الاتصال في الحديث، لذلك قال الحاكم: «فإنه نوع من السماع الظاهر الذي لا غبار عليه»، هذا ما يتصل بهذا المثال الثاني.
ثم ذكر المصنف المثال الثالث فقال «ومنه» ما يجري مثالا في هذا القسم -قسم الملح- ما يبحث عنه ويطلب «بالقصد إلى» كسب «التأنق» وتحصيله -والتأنق: تتبع المحاسن- «في أخذ» واستخراج «ما يحمله» ويرويه من الأحاديث «من طرق» كثيرة.
«يقصد باستخراجها» على تلك الصورة «التكاثر» أي المغالبة بالكثرة والاستكثار «في طرق» الحديث «المروي لا» أنه يقصد بذلك تحصيله وروايته على درجة «التواتر» بل على أن يعد آخذا له عن شيوخ كثيرين ومن جهات شتى، والاشتغال بهذا من الملح لا من صلب العلم. خرج أبو عمر بن عبد البر عن حمزة بن محمد الكناني قال: خرجت حديثا واحدا عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق -شك الراوي- قال فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل وأعجبت بذلك، فرأيت يحيى بن معين في المنام فقلت له: يا زكرياء، قد خرجت – حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق، قال فسكت عني ساعة، ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت {ألهاكم التكاثر}، هذا ما قال، وهو صحيح في الاعتبار لأن تخريجه من طرق يسيرة كاف في المقصود منه فصار الزائد على ذلك فضلا.
يتبع..