في مكة حيث الضعف والانكسار وقلة العدد وانعدام العتاد, وقد تجمعت العرب على كلمة الكفر, وصمُّوا عن الحق آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا على الضلال وإضلال الناس إصرارا, وأنفقوا الأموال كي لا تكون كلمة الله هي العليا, كانت الدعوة لا تتكلم عن شيء أكثر مما تتكلم عن اليوم الآخر، ابتداء من القبر وما فيه ويوم الحساب وما فيه والجنة والنار، حتى أصبحت سمة بارزة لما نزل من القرآن في مكة المكرمة.
بلغة العقلاء المفكرين..الإصلاحيين: كان الحال يومها يستدعي مرونة في الطرح بإظهار شيء مما تخفيه تلال الأيام، ويستيقن منه الرسول عليه الصلاة والسلام من نصر وفتح وغنيمة، حتى يكثر العدد وتكوَّن قوة تواجه هذه القوى.
ولكنَّ شيئا من هذا لم يحدث، وأصرت الدعوة على أن تبدأ من اليوم الآخر ترغيبا وترهيبا.
تحاول أن تجعل القلوب معلقة بما عند ربها، ترجو رحمته، وتخشى عقابه.
ويكون كل سعيها دفعا للعقاب وطلبا للثواب فتكون الدنيا بجملتها مطية للآخرة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أيضا تربى على هذا المعني, فقد كان يتنزل عليه “وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (يونس: 46) “وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ” (يونس:40).
وهكذا استقامت النفوس تبذل قصارى جهدها في أمر الدنيا ترجو به ما عند الله، فكان حالهم كما وصف ربهم “تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً” فهذا وصف للظاهر (رُكَّعاً سُجَّداً) ووصف للباطن (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)، والسياق يوحي بأن هذه هي هيئتهم الملازمة لهم التي يراهم الرائي عليها حيثما يراهم.
فمن يتدبر آيات الأحكام في كتاب الله يجد أن هناك إصرار من النص القرآني على وضع صورة الآخرة عند كل أمر ونهي ضمن السياق بواحدة من دلالات اللفظ، المباشرة منها أو غير المباشر فمثلا يقول الله تعالى: ” وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ…”.
فتدبر كيف يأتي الأمر بعدم تطفيف الكيل حين الشراء وبخسه حين البيع في ظلال مشاهد يوم القيامة وحال البار فيها والفاجر؟
ومثله “فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور” فهنا أمر بالسعي على الرزق, وتذكير بأن هناك نشور ووقوف بين يدي الله عز وجل فيسأل المرء عن كسبه من أين وإلى أين؟
بل واقرأ عن الآيات التي تتحدث عن الطلاق في سورة البقرة تجد أنها تختم باسم أو اسمين من أسماء الله عز وجل “..فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” “..وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” “..وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” “..وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” “..إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ”، وهذا لا شك استحضار للثواب والعقاب.
وإذا كان هذا أسلوب القرآن العظيم في عرض قضايا الشريعة، وهو ما تربى عليه الصحابة رضوان الله عليهم فلم يغيب الطرح الأخروي عن المشاريع الفكرية التي تنتجها أقلام (الإصلاحيين) وخاصة حين يتكلمون إلى الكافرين أو العلمانيين؟
لم هذا الخطاب الدعوي المنقوص؟
لم لا نخاطبهم: آمنوا بربكم الذي خلقكم ورزقكم وأحياكم ويميتكم ثم يحاسبكم؟
لم لا نناديهم: أسلموا قبل أن تكونوا من جثي جهنم التي وصفها كذا وكذا؟
أسلموا كي لا تحرموا جنة فيها وفيها…؟
ويدور الحوار حول دلائل صدق الخبر ومطلب المخبر.
أسذاجة؟
لا وربي. فهكذا نشأت خير أمّة أخرجت للناس، ودونكم السيرة.