يلتزم الباحث الجاد بقواعد صارمة في قراءة الأحداث وتوصيفها وتحليلها تحليلا علميا، ويستعمل لذلك أدوات تاريخية ومعرفية ونفسية قادرة على إيصاله إلى عمق الحدث وملاحظة أجزائه في سياق مناسب، ويتفاوت الباحثون في القدرة على هذه الصناعة العلمية، فتتفاوت نتائجه قربا وبعدا عن حقائق الأمور، والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم حدث متكرر، تصاحبه توابعه جرا ودفعا، وهو حدث له دلالات عميقة تتجاوز السب نفسه، إلى مواضيع أخطر وأكبر.
لقد قرر القرآن كون السخرية أمارة على ضعف الحجة والجهل، وعلى لسان موسى عليه السلام ردا على قول بني إسرائيل: «أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ»، وقد مارس أعداء الإسلام هذا الأسلوب منذ بداية الوحي، ورصد القرآن هذه الممارسة رصدا دقيقا، وجعل لها ردا مناسبا في كل مرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يواجه هذا بصرامة.
في قراءة سريعة للتاريخ، سيلاحظ المتابع أن كمية ونوعية السب تتناسب مع سرعة وطبيعة انتشار الإسلام، وسيحول السب إلى منهج متبع في المدافعة الفكرية، وسيشهد التاريخ محطات ظاهرة مارس فيها المخالف للإسلام أنواعا مختلفة من السب والسخرية، وسيكون موقف المسلمين في ذلك حاسما متميزا بعقلانية وحسن استثمار للحدث، ووصل بهم الأمر إلى جعل السب مبشرا بالفتح للحصون والقلوب كما يذكر ابن تيمية.
لقد كان النصارى خاصة يمارسون السب في كل مرة يستدعي الأمر ذلك، حتى أنهم كانوا يقيمون التماثيل باعتباره نوعا من أنواع التعبير المستمر، ومن ذلك أنه حينما لم تفلح الجيوش العثمانية في حصارهم لفيينا النمساوية، خلد النحات «Matthias van Beveren» سنة 1685م تمثالا للنبي صلى الله عليه وسلم وبيده القرآن وقد داسته الأقدام، والتمثال قائم في كنيسة «Notre-Dame» في مدينة «Termonde» في بلجيكا، ومثله رسم لـ« Giovannida Modena» في كنيسة «San Petronio» بإيطاليا حيث صور النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعذب في جهنم، وكذلك صورة كاريكاتورية للنبي صلى الله عليه وسلم في هيئة سمكة في رسم مضمن لترجمة القرآن الكريم للراهب «Pierre le Vénérable» الرئيس التاسع لدير كلوني الفرنسي ومثلها كثير.
حينما قرأت في كتاب غريس هالسيل منذ ما يقرب من عشرين سنة، تأسس عندي شعور بأن الحروب الصليبية لم ولن تنتهي، سواء تعلق الأمر بالتصور الإسلامي أو التصور الصهيوني الذي بدا واضح الحضور في كل هذا… سيتطور الأمر وستتضح الرؤية أكثر حينما ألحظ حضور طرف جديد في هذه التوليفة… الصهاينة العرب.
يكاد أمر سب أهل الكفر للنبي صلى الله عليه وسلم يصير من المسلمات المعرفية عند المثقف المسلم الذي تملَّك قدرا لا بأس به من أدوات فلسفة التاريخ، ولذلك لا تجده يفاجأ بتجدده وتنوعه، فهو يتجاوز في قراءته سماعه أو مشاهدته إلى تحليله وتوظيفه في معادلات معرفية توصل غالبا إلى القيام بالدور الطبيعي الذي يقوم به المثقف المنتمي إلى الإسلام وأصوله، وهو استثماره وبيان زيفه.
كانت الحروب الصليبية في الشام والأندلس حدثا مميزا في تاريخ الصدام الحضاري بين الإسلام والغرب، وكان مظنة لممارسة السخرية التي صارت مصاحبة للمعارك قبلا وبعدا وكانت فرنسا مشاركة في الحروب الصليبية على الشام، وهي أم النصرانية الكاثوليكية، وعداؤها للإسلام ظاهر معلن والأظهر منه كونها جزء من المشروع الصهيوني في العالم، الذي يهدف إلى سياسة العالم بنظام الاستعباد للعباد واستغلال موارد البلاد، وقد ضربت فرنسا لذلك أبشع الأمثلة، وشواهد وحشيتها لا تزال قائمة في العقل الإسلامي حينما احتلت أفريقيا والجزائر والمغرب خاصة، وما اقترفته الأيدي الآثمة من مذابح ومجازر باسم الحرية والمؤاخاة والمساواة والتنوير والثورة.
سيتولى الاستشراق مهمة تحويل السب إلى إنتاج ثقافي ومنهج فكري، فكثر وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبي المزيف كما قال المستشرق الفرنسي سافاري «Claude-Étienne Savary»، والشيطان عند زميله الفرنسي أيضا إرنست رينان «Ernest Renan»، وأسهم الصوت الكنسي الإنجيلي الأمريكي في ذلك فوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالإرهاب!!! كما فعل القس جيري فولويل وغيره، ولينظر لهذا العدد 147 من مجلة الجامعة الإسلامية، فلا يستغرب استعمال هذا المصطلح اللقيط في الخطابات السياسية الغربية المعاصرة… أو العلمانية العربية والمغربية كما فعل أحمد عصيد.
تكرر ذكر صحيفة شارلي إيبدو في كتاب (le printemps des sayanim) للمستشرق اليهودي ذي الأصول المغربية جاكوب كوهين أكثر من مرة، وارتبط ذكرها بعلاقات مشبوهة بالسياسيين الفرنسيين، وباللوبي الصهيوني في فرنسا، وكان ذلك مؤشرا سياسيا وفكريا معقولا على كون الصحيفة جزءا من أدوات النظام العالمي الصهيوني الجديد.
صار هؤلاء كما يقول ابن خمير السبتي في «تنزيه الأنبياء عما نسبه إليهم حثالة الأغبياء» ص26: «يخوضون في أحوال الأنبياء عليهم السلام، ويتمندلون بأعراضهم على رؤوس العوام والطغام، ولا مشفق على دين الله تعالى… ولا زاجر ذا سلطان حتى كأننا ملة أخرى، ولا نغار على ذمهم، ولا نرقب في أعراضهم إلا ولا ذمة».
لا يمكن تصنيف ما فعلته وتفعله شارلي إيبدو من سب لله ورسله في خانات حرية التعبير؛ بل التعيير، لتكون القراءة سليمة، وتكون الملاحظات علمية، فيوضع الأمر كله في سياق المشروع الأكبر، الذي يقوم على تنفيذه رؤوس خرجت في الصف الأول من المسيرة الباريسية، بدأ بأسنان الآلة السياسية وانتهاء بالعبيد المتصهينين من رؤساء الدول والحكومات العربية.
سيستمر هؤلاء في السخرية من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمر تعلمناه من القرآن الكريم، وتعلمنا معه كما يعرف الفرنسيون ذلك جيدا، (Rira bien qui rira le dernier)، ولذلك قال الله تعالى: «فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون».
لا يتوقف الأمر عندنا وعندهم عند السخرية والاستهزاء، بل يتخطاه إلى المشروع الأكبر… وهو إقامة دولة صهيون استعدادا للهرمجدون؛ حين يقاتل المسيح عدو المسيح، وانظر لذلك «النبوءة والسياسة، الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية» و«يد الله، لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل» كلاهما لغريس هالسيل.
دورنا نحن… أن نرفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من حيث أرادوا خفضه، واستعمال وصفه لخلقه وخلقه، والاستعانة بالأحكام المنصفة على ألسنة بعض المستشرقين العقلاء، وتقوية العلاقة بشخصه ودعوته، والانتقال دائما إلى حالة المبادرة لا ردة الفعل، والانشغال بوضع البصمات على دفاتر العمل، وإيصال الرسالة المحمدية إلى البيوت ما بلغ الليل والنهار، بعز عزيز أو ذل ذليل، والله متم نوره ولو كره الكافرون.