كصنف الشعراء الذين أثبت القرآن حقيقة كونهم رُؤوا في كل واد يهيمون وأنهم كانوا يقولون ما لا يفعلون، قال الذي «وإن كان الأخير زمانه لكنه أتى بما لم تستطعه الأوائل» مستفسرا في إطناب معطوفات: «تخيلوا معي عالما بلا ثلاجة ولا تلفاز ولا أدوية للأمراض الخطيرة…».
ثم خلص بعد متتالية عطفه إلى لوك ذلك الشريط المشروخ قائلا بدُربة احتمال في شماتة: «كنا لنكون ممتطين للدواب، وكنا لنظل أسرى حياة لا يمكن لأي من لاعني الغرب اليوم تحملها…».
ونحن بدورنا نستطرد مع متتاليته ونتيجتها سائلين أن يأتينا وهو الأخير زمانه بنص من القرآن أو حديث من الهدي النبوي حجّر على عقل مسلم بله جنس إنسان، أو دعا لهدم مصنع أو إيصاد مختبر أو كبت علم نافع في كوامن أصحابه، وهل جرب هو «الأخير زمانه» صنع عقار، أو اختراع مصل مضاد لوباء، أو محرك دوار، أو بالون طيّار، فوجد عالما من علماء المسلمين قد سلّ سيفه من غمده وأشهره في وجهه في سياق المنع والكبح والجمح توصية مطلعها قال الله ومقطعها حرم رسوله كل إبداع نافع واختراع ناجع.
وربما في معرض الاستدراك تبنى صاحبي كما هي عادة الشواكل ومألوفات «المجددينات» الغوائل لسان كذب الاستشراق فقال في غير عزو ما قاله المستشرق الفرنسي «أرنست رينان» قبل أن يقر ويتراجع عن افتراءاته على الإسلام مبررا غلطه بضعف مصادره التي استقى منها معلوماته عن الإسلام: «ففيه سذاجة الفكر السامي المفزعة المقلصة للمخ البشري مغلقة منافذه في وجه لطيفة كل إحساس رقيق وكل تأمل ونظر منطقي».
ولعل من حسنات سوق هذا الافتراء الوقوف على مصدر المادة الخام التي يشكل منها بنو الجلدة قوالب شبههم، وربما احتجنا لكظم هذا الغيض بفيض شهادة ممن لهم وزن واعتبار وشأن عند صاحبنا ورخويات شواكله وهي شهادة المستشرقة الألمانية «زيغريد هونكه» التي حلقت عاليا في مدارج الإنصاف والتجرد بقولها: «إن الإغريق تقيدوا دائما بسيطرة الآراء النظرية ولم يبدأ البحث العلمي القائم على الملاحظة والتجربة إلا عند العرب».
ولربما كنا في حاجة إلى أن نذكر عباد الغرب المتيّمين بمدنيته على أن الخليفة المأمون كان يدفع للعلماء وزن ما يترجمونه من العلوم والمعارف والنظريات ذهبا، في الوقت الذي سجل فيه التاريخ على أوربا خلال العصور الوسطى كبيرة تعذيب العلماء وإرغامهم على التزام الأفكار الظلامية العقيمة.
ولسنا نكابر إذا ما انتصرنا عبر استقراء تاريخ الفكر الإنساني إلى كون علماء الحضارة الإسلامية كان لهم السبق في نفض منطق أرسطو النظري، فاستطاعوا بذلك أن يميزوا بين طبيعة الظواهر العقلية الخالصة والظواهر المادية الحسية وليس تمة ما ندلل به على هذا السبق من اعتبار ابن تيمية رحمه الله كونه كان من أوائل العلماء المسلمين الذين نقدوا منطق أرسطو الصوري وذلك في كتابه «نقد المنطق»، بل كان له السبق في الدعوة إلى الاستقراء الحسي من جهة أنه يصلح للبحث في الظواهر الكونية وبإمكانه أن يوصل إلى معارف جديدة.
وهذا أبو الريحان البيروني ينتصر للعلوم العامة والعلوم التجريبية وخاصة منها ما له علاقة بالفلك والطبيعيات، تشهد له مؤلفاته في الرياضيات والفلك والتنجيم والجغرافيا والجيولوجيا والصيدلة والطبيعيات وغيرها من العلوم؛ نذكر منها في الفلك «العمل بالإسطرلاب»، و«تقاليد الهيئة»، وفي التنجيم «التفهيم لأوائل صناعة النجوم»، وفي الجيوكيمياء «الجماهر في معرفة الجواهر».. وغيرها كثير كثير.
ولكن التطفيف المدخول القصد والطوية يأبى إلا أن يقدم حشفه مع سوء كيلة ومكر حيلة، فيبدي مساوئ أمة تأسس بنيانها على قواعد ودعائم تسمح بطول البنيان وعلوه في غير نقل ولا تقليد مخل، ولا شك أن حضارتنا أوثق تاريخا وأنبل سيرة وأبلغ معاملة من مدنية الغرب تلك المدنية التي لم يعرف التاريخ أسوأ منها في إراقة الدماء والتهام حقوق المستضعفين بنهم حيواني.
بل كان الحيوان أشرف منها من جهة أنه يفترس ليعيش ويمسك ساعة الشبع ولم يؤسس يوما قانونا لتسويغ افتراسه ولا ادعى الشرف لسلوكه، كما يفعل الغرب اليوم حيث تميزت مدنيته بالمكر الفائق الذي يصور الإثم في ثوب الشرف ويبرز الشهوة في قالب قوانينه “الدولية النزيهة” التي تحمي شططها خمسة أصابع سبابة فتجعل الظلم عدلا، والجوع شبعا، والقتل جنة ونعيما، وهي أصابع من لا يزال إلى يومنا يستمرئ العدوان ويحتفي بدمنا المسفوح هنا وهناك، بل يستبد به جنون العظمة متى ما كان الضحية إنسان مسلم والمستهدف ثغر أرض إسلام.
ويا ليت صاحبي عرّج في محبوره على ذكر مظاهر الوثنية عند غربه وقد ربط النصارى أنفسهم بتصاوير الكنيسة ورسومها رسوم لو دنت منها الكلاب لتبولت عليها، كما ربط إخوانهم اليهود أنفسهم بحائط مبكاهم فأقاموا حوله وعنده حقوقا ما أنزل الله بها من سلطان.
ولكن خصيصة التطفيف دفعته إلى اجترار شبهة محاكاة مناسك الركن الخامس لطواف الجاهلية الأولى ومعالم صلاة مكائها وتصديتها عند البيت العتيق، ولا شك أنه خاض فيما لا يحسن، وقد قيل قديما وما يزال أن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.
وأين له وأنّى له أن يعرف أن الأمور التعبدية أو العبادات المحضة هي التي تتمايز بها العبودية الصادقة عن الزائفة، إذ العبد في مقام الطلب والتحقيق لا يملك إلا أن يقول لما صح وتواتر «سمعنا وأطعنا»، متجنبا سلوك العبد الكذاب المتمرد وهو يستدرك بقوله «سمعنا وعصينا»، ولا شك أن التكليف لو جاء ونزل، مفهوم الحكمة للعقل بالإجمال والتفصيل لسهل لشياطين الإنس والجن تسويغ عبادة العقل قبل عبادة الرب.
وربما غاب عن صاحبي أن العرب ورثوا هذه العبادات وشعائرها من دين إبراهيم عليه السلام ثم انحرفوا بعد طول أمد عن حنيفيته السمحة وبدلوا وغيّروا، فجاء الإسلام فأقر ما كان من دين إبراهيم وأبطل مبتدعات المشركين ونفض ركام درن الوثنية والجاهلية عن ملة خليل الله عليه السلام.
قال محمد بن السائب الكلبي: «كانت العرب في جاهليتها تحرم أشياء ونزل القرآن بتحريمها كانوا لا ينكحون الأمهات ولا البنات ولا الخالات ولا العمات وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويطوفون بالبيت سبعا ويمسحون بالحجر ويسعون بالصفا والمروة».
ولذلك ولما كان الإسلام قد جاء على وفق الفطرة السوية فقد أقر المناسك التي لم تصبها لوثة الوثنية وأبطل بالمقابل كل ما شابته وثنية، فهو إذن لم يكن محاكيا لهذه العقائد وإنما جاء مصححا لما حرف منها وجانب سبيل الحنيفية السمحة.
فنجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما إن دخل مكة فاتحا حتى حطم الأصنام التي كانت حول الكعبة ومحا الصور التي كانت داخلها وحمل على العري فأبطله وأنزل الله قوله تعالى: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين».
وانظر إلى الحكمة من وراء حقيقة أن العرب في جاهليتهم وقد عبدوا الغرانيق والأصنام والأوثان، لم يسجل التاريخ على أحدهم أنه عبد الحجر الأسود، أو المقام مع شدة احترامهم لهما وحرصهم كل الحرص على المحافظة عليهما، وفي هذا ما فيه من الدلالات على عصمة هذا الدين، إذ ما كان المترفون قائلين وقد عُبدا من ذي قبل وجاء الإسلام بتعظيمهما.
إننا إذ نتعبد الله بقولنا «الله أكبر» لنعلم أن من لوازمها ومقتضياتها ألا ننسحر بمدنية حشرت النساء عاريات وراء الواجهات الزجاجية كبضاعة عرض أمام طالبي الإشباع المؤدى عنه بالعملات المحلية في أرقى الشوارع الأوربية.
مدنية أشرت كنيستها في صفير وتصدية زواج الرجل بالرجل، وخرج الساسة الكبار ليباركوا هذا السفاح الذي أنفته الضباع ومجته السباع.
مدنية صنعت لنا الطائرة لتطأ أقدامنا أمكنة لم نكن باليغها إلا بشق الأنفس ثم ما لبثت أن حولتها إلى راجمات موت وقاذفات عذاب أليم وإرهاب مبين.
مدنية صنعت لنا الثلاجة لتحفظ الأطعمة وتبرد الماء ثم ما فتئت أن استخدمتها كحاويات لركام موتانا وقتلانا وضحايانا من الولدان والرجال والشيوخ والحرائر والنسوان.
مدنية صنعت التلفاز ليصير العالم قرية صغيرة ثم لم يكد يدور على مولودها الحول حتى صيّرت هذه التلفزة إلى ماخورات تعج بأصناف من القوادح الإنسانية والمروق الأخلاقي المردي.
مدنية صنعت الأمصال والأدوية انتصارا للحياة ثم تحول فكرها إلى صناعة الفيروسات في مختبراتها ونشرها بين الناس لتهلك الحرث والنسل.
يا صاحبي بئس المدنية مدنيتك، ونعم الحضارة حضارتنا ولو على ظهر البغال والحمير بإرداف، ولو على ضوء السراج الكشاف، ولو على تمر وماء زلال وصاف، ولو على مشرط حجامة وشربة عسل وكي نار كوصف تداوي للأسلاف، ولو بغير ثلاجة ولا تلفاز ولا ودواء لم نكن لنهلك دونه إلا بإذن الله.