قلوب العباد، على ما أودع الله تعالى فيها من خير وشر، موسومة بنوازع التآلف والتنافر، وقد اختص الله عز وجل قلوب عباده المؤمنين بصفات المحبة والمودة والرحمة واللين، وهذه صفات مشتركة بينهم، وإن اختلفت في درجاتها، زيادة ونقصانا، فهي مدعاة لتمتين روابط التآلف بين القلوب وباعث لتوطيد وشائج الوئام بين الأفئدة.
نعمة ربانية:
يُذكِّر الله تعالى عباده المؤمنين بنعمة الألفة التي أجراها بين قلوبهم بعدما كانت قلوبا متنافرة قبل الإسلام، ملؤها الشقاق والشحناء حتى شارفت على الهلاك وقاربت الفناء، فبفضل من الله تعالى وتوفيقه تحولت هذه القلوب من البغضاء إلى المحبة ومن العداوة إلى الأخوة، وطريق هذه النجاة، اتقاء الله تعالى حق التقوى والاعتصام بحبله المتين واجتناب كل أشكال التفرقة والانقسام، ولزوم ذلك إلى منتهى الوفاة على الإسلام، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” آل عمران:102-103.
نعمة لا تعدلها نفقة مادية:
تأليف قلوب المؤمنين على المحبة والمودة والأخوة خصيصة ربانية ومنة إلهية، وهي بذرة لطيفة يستنبتها الله عز وجل في قلب المؤمن، فينميها في بيئة إيمانية نورانية حتى تكبر وتثمر معان ومواقف وسلوكات، منها التضحية والفداء في سبيل الله وفي سبيل دينه، ومنها حب الله وحب رسوله والانتصار لهما ومنها تعظيم حرمات الله وتقديس شعائره، ومنها الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من كل الطواغيت ورموز الكفر والشرك والإلحاد، نعمة لا يساوي قيمتها ذهب ولا ورق وفضل لا يعدل قدره ما حوته الدنيا من متاع مادي، “وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” الأنفال:62-63.
تنافر القلوب مهلكة:
ومن تبعات ذلك:
الفرقة والشتات: فلا يستقيم للمجتمع رأي ولا تتحدد أهدافه على رؤية واضحة ولا يتلمس طريق مستقبله بتبصر، فتصير حاله كالأعمى الذي يخبط كالعشواء لا يهتدي في خطاه ولا يدرك وجهته، “لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ” الحشر:14.
التعصب والانتصار للنفس: ويظهر ذلك كتجليات لأمراض تصيب القلب كالكبر والأنانية والسخرية والحقد والحسد، وابتغاء الفساد وتقطيع الأرحام، وغيرها… وكلها أدواء تجعل المرء يغلِّب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، ويقدم المنفعة الخاصة على المنفعة العامة، فيصم آذانه ويعمي بصيرته وإن شاهد آيات الحق وعاين دلالات الإنصاف، “طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ۚ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” محمد:21-24.
وظيفة الصدقة:
الصدقة طُهرة للنفس وتزكية لقلب المتصدق من جهة ولها للمتصدَّق عليه وقع حسن وأثر مستحب من أخرى لما فيها من تليين قلوب الناس ومبادرتهم بالمودة وإبداء الرغبة في استمالة ودهم وتمهيد الطريق لتحبيب الإسلام إلى قلوبهم، وهذا ضرب من ضروب الجهاد ما دامت هناك قلوب من الكفار والمشركين والمنافقين قد لا يستتب الإسلام فيها إلى بالعطاء المادي، “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” التوبة:60. “…المؤلفة قلوبهم… وهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم، قال الزهري: المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيا. وقال بعض المتأخرين: اختلف في صفتهم، فقيل: هم صنف من الكفار يعطون ليتألفوا على الإسلام، وكانوا لا يسلمون بالقهر والسيف، ولكن يسلمون بالعطاء والإحسان. وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر ولم تستيقن قلوبهم، فيعطون ليتمكن الإسلام في صدورهم. وقيل: هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع يعطون ليتألفوا أتباعهم على الإسلام. قال: وهذه الأقوال متقاربة والقصد بجميعها الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلا بالعطاء، فكأنه ضرب من الجهاد” الجامع لأحكام القرآن: 8/107.
وسيلة للمنعة وسبب للقوة:
والأمة الإسلامية أحوج ما تكون في أيامنا هذه إلى تحري أسباب الموصلة إلى تأليف القلوب والسبل المؤدية إلى تجميع الأفئدة على هدي القرآن ومنهج النبوة، ولا يستقيم ذلك إلا بتقوى الله عز وجل ابتداء ثم الاعتصام بحبله المتين والتمسك بعرى الدين فهذه الوسائل هي المفاتيح التي من شأنها لمّ شمل المسلمين وجمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، ورأب صدعهم، “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ” الصف: 14.
ويصدق الآية الكريمة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ المُؤمِنَ للمُؤْمِنِ كالبُنيانِ، يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا، وشَبَّكَ أصابِعَهُ” البخاري: 481. كما أن تآلف قلوب المؤمنين له من الخير على المجتمع وصلاحه الفضل العميم، به تتجلى مظاهر المودة والتراحم، ومنه تنشأ معاني العطف والتلاحم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثلُ الجسدِ إذا اشتكَى منه عضوٌ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى” مسلم: 2586.
أمة غشيها من الوهن والفتور ما غشيها، فهلا اهتدت إلى كتاب ربها وسنة نبيها وسلكت مسلك سلفها الصالح.
اللهم ألف بين قلوبنا على حبك وحب نبيك صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.