مرة أخرى اشتعلتْ نيران الجدَل والصراع السياسي والفكري حول الطرح المنادي بتغيير المناهج؛ ذلك الصراعُ الذي ما يَلبَثُ أن يهدأَ قليلاً حتى يشتعل مرة أخرى.
وإنه لعيب وعار أن تجد بين أظهرنا في هذا الوطن الكريم من يحمل فكرا إقصائيا متطرفا، ممن يجدها فرصة سانحة ليس للنيل من التربية الإسلامية بل يتعداها إلى أصول الشريعة ومحكّماتها، وليس غريبا أن تخرج علينا بعض “الفقاعات والفرقعات الهوائية” بكلام مثل المقالة التي نشرت مؤخرا بعنوان: (من يزرع الوهابية يحصد “داعش”)، وهي المقالة التي انطوت على جملة من المغالطات والانتقادات غير السليمة واللاعلمية في حق التربية الاسلامية، والتي أزبد فيها صاحبها وأرغد بكل سماجة، موجها معول نقده إلى رجال التعليم المدرسين لمادة التربية الإسلامية، جاعلا من ظهر المادة المدرّسة مطية للنيل من الشريعة الإسلامية نفسها..
والحمد لله أن كان من الغرس المؤمن من كفانا مؤنة الرد عليه، أمثال الدكتور أحمد الريسوني -حفظه الله- الذي سبق أن خص الموضوع بمقالة تحت عنوان: (التربية الإسلامية: حرقوها وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين)، فكان الحق أبلج والباطل لجلج، وكما قال العربي الفصيح في إحدى أمثاله المشهورة: “رمتني بدائها وانسلت…”([2]).
ومما نؤكد عليه في هذا السياق، أن تطوير الخطاب الديني قضية شغلت الأذهان كثيرًا؛قديمًا وحديثًا؛ مع واجب التنبيه على أن البعض كان صادقا في دعواه، همّه تقديم الدين بمفهومه السمح وصورته الحقيقية، ومخاطبة الناس على قدر أفهامهم، والبعض الآخر يحاول أن يُلبِّس على الناس دينهم عن طريق إثارة شبهات تسبب بلبلة وتشويهًا؛ كي يصرف الناس عن الجوهر الحقيقي لهذا الدين، ويدعو إلى توجيه سهام النقد إلى أصوله من قرآن وسنة صحيحة.
وقد كتب قديما الشيخ محمد حسين عليه رحمة الله- كتابا نفيسا في بابه لا زال صداه يتردد بيننا إلى اليوم -وهو حسنة جارية أدام الله أجرها له ولكل من ينتفع به-، واختار له عنوانا لطيفا ظريفا، وهو عميق في معناه ومقصوده، سمّاه “حصوننا مهددة من داخلها“، وتناول فيه قضايا متنوعة… وفكرته المحورية بإيجاز: هي أن الأخطار الداخلية التي تهدد كيان الأمة الإسلامية كثيرة ومتنوعة، وحذّر من أن الخطر الداخلي أهم بكثير من الأخطار الخارجية، ولكي نواجه عدوّنا في الخارج لابد من تصحيح الداخل أولا.
وبيّن المؤلف -رحمه الله- منهجه في مقدمة الكتاب قائلا: «هذه الصفحات لا تستقصي نشاط الهدامين، ولا تستوعب كل ميادينهم ولا تحصيها عدداً، ولكنها تقدم نماذج منها تكشف عن أساليبهم في الدس والتزييف والهدم والتخريب؛ وهي أساليب لا يقتصر شرها على بلد دون بلد؛ فهي تعم بلاد العرب بل بلاد المسلمين بل الشرق كله، يسقونه السم على حين نهضته حتى لا تصح له نهضة، وليقودوه إلى الهاوية…»([3])، ثم شرع في بيان المخاطر التي تحدق بالأمة في كل مجال من مجالات الحياة.
ومما تناوله في كتابه، مجال منَاهج اللغَة وَالدِّين، فنجده أجاد في التحذير من الدعوات المفسدة الهدامة التي تطالب بدراسة اللهجات العامية، وما كتب فيها من الآثار والآداب مما يسمونه “الأدب الشعبي” موضحا أنها واحدة من الدعوات التي تريد أن تهدم العربية الفصحى لغة القرآن الجامعة لشمل العرب والمسلمين.
وفي مجال الدين نقف على جميل تنديده بتسرب الدراسات المنحرفة إلى جامعاتنا والتي تطعن في كل ما له صلة بمعتقداتنا الإسلامية، وكذا تأثر عدد من المفكرين والمثقفين بما تحمله مثل هذه الدراسات من انحرافات وسموم تهدد قيم وعقيدة المجتمع المسلم.
وجدير بالذكر أنه وعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على كتابه، إلا أن قضاياه التي عالجها لا تزال تؤثر في مجتمعاتنا الإسلامية حتى يومنا هذا.
وارتباطا بما سبق، فالناظر اليوم بعمق وتمعن فيما يُحاك ويُستجد من مؤامرات ومكائد على التربية الإسلامية بالخصوص، لا يستغرب مثل هذه المحاولات المكائدية العلمانية([4]) وما جرّته من الويلات والتغييرات؛ لأن ما يجري ببلدنا وبلدان المسلمين في هذا الشأن ما هو إلا امتداد لحلقات تاريخية متسلسلة بين الحق والباطل وبين النور والتعتيم واليقين والتشكيك والتسليم والتطاول على شرع الله الحكيم.
ولا شك أن هذه المحاولات الهدامة والمكائد المسمومة، يجب أن تفهم في سياقها الفلسفي والتاريخي العام والكلي، بحيث لا نجزئ هذه المناسبة عما سبقها من حلقات متتالية، لنفهم جيدا مقصود القوم وما يدبرونه بالليل والنهار لهذه المجتمعات المسلمة، ولهذه الناشئة المسلمة في التعليم، وفي السياسة، وفي الاجتماع، وفي الاقتصاد، وفي كل القضايا الجوهرية التي توجه المجتمع وتحكم تمفصلاته وكيانه.
وإذا فهمنا هذا السياق جيدا وأعدنا النظر إلى الماضي القريب قليلا، سوف نجد أن عددا من البلدان العربية والإسلامية عانت من نفس الأمر وذاقت مرارته كأسا علقما، ففي مصر مثلا، وُجدت منذ زمن مبكر صيحات تغريبية متتالية ومتعالية صادرة من مؤسسات وأفراد تبنوا الفكر التغريبي بحذافيره([5])؛ لأنهم تربوا عليه ونهلوا من معينه([6])، وهو مِن أعظم ما ابتُليت به الأمَّة المسلمة اليوم، ذلك التيَّار المسخ الهجين، الذي أصبح ينخَر في الأمَّة من داخلها، ويهدم بُنيانها وقواعدها، بل أصبح أكثر ضررًا وخطورةً من العدوِّ الظاهر، فحقَّ أن يكونوا (هم العدو) الذي يجب الحذرُ منهم واتقاؤهم؛ كيف لا؟! وهو التيار الذي ينطق باللِّسان العربي، ويتزيَّا بزيِّه، ويعيش في كَنفه وضمن مكوِّناته، ويدَّعي أنَّه منه، بينما هو في الحقيقة كيان مباين له، منفصل عنه فكرًا وعقيدة ومنهجًا وهوًى؛ ينطق باسم مَن تَشرَّب بأفكارهم، وتضلَّع بعلومهم، ورضَع من لبان مناهجم، حتى صار لا يستطيع منهم فطامًا، ولاعنهم انفصالًا، بل تعدَّى الأمر أكثرَ من ذلك بدعوته للأمَّة جمعاء أن تَسير سيرَه وتحذو حذوَه في تغريبه وتنكُّره للدِّين والمبادئ والأخلاق والقِيَم([7]).
فقاسم أمين ورفاعة الطهطاوي ونوال السعداوي وطه حسين، وطيب تيزيني ومحمد أركون، والقائمة طويلة ليسوا إلا منظرين للفكر الحداثي العلماني بامتياز، هذا الفكر الذي ما فتئ يخرق سفينة الدين كل يوم وحين، فكر ومفكرين لا يرون في التربية الإسلامية -بله في الدين نفسه- إلا رجعية وتخلفا وظلامية وفتكا بحقوق الإنسان من خلال تطبيق الحدود، وتبخيس قيمة المرأة، وتحجير على الحرية بكل أبعادها، وعلى رأسها حرية المعتقد أو الدين، وتشجيع على “الإرهاب”، وغيرها من الأفكار التي أصبحنا نسمعها ونقرأها علنا في مجتمعنا وفي وسائل الإعلام من بني جلدتنا.
وغير بعيد عن هذا الذي ذكرنا، فقد حدث قبل زمن يسير، في سنة 2015م نفس الأمر في دول عدة، ومن بينها دولة الكويت بعد تصريحاتِ وزير التربية الدكتور بدر العيسى، المتعلِّقة بالطعن في مناهج التربية الإسلامية واللغة العربية، ولم تكن الكويت وحدَها صاحبةَ النصيب الأوفى في هذه الحرب الضَّروس، بل طالتْ نيران هذه المعركة أكثرَ مِن عاصمةٍ عربيةٍ في وقت واحد، والمعركة واحدة، ألا وهي الدعوات المحمومة إلى تغيير مناهج التعليم، وخاصةً ما له تعلِّق بالإسلام وشريعته وقِيَمه وفضائله.
وهكذا فإذا انتقلنا مثلا من مصر والكويت إلى موريتانيا، نجدها أيضا عانت الأمرّين، فوُجد قوم اتهموا وشنعوا عن المحظرة الموريتانية باعتبارها مؤسسة تساهم في تخريج أفواج يتبنّون الإرهاب والتطرف..؟! وعاد هذا الجدل إلى الواجهة من جديد خلال الفترة الأخيرة إثر صدور فيلم سينمائي بعنوان “المتطرف”، حاول مخرجه تسليط الضوء على إشكالية اختراق المحظرة من طرف طلبة أجانب يحاولون استغلالها لاستقطاب مجموعات شبابية، يتم تجنيدها ضمن حركات توصف بـ”التشدد والإرهاب”، وهو ما اعتبره البعض تشويها لصورة المحظرة وتنقيصًا لدورها العلمي والثقافي([8]).
————————————–
[1]))استاذ باحث، ومدرس لمادة التربية الاسلامية بالسلك الثانوي والاعدادي.
[2]))قاله: أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني- رحمه الله – في مجمع الأمثال.
[3]))حصوننا مهددة من داخلها، ص13.
[4]))العلمانية: ترجمة خاطئة لكلمة (Secularism) في الإنجليزية أو (Secularite) بالفرنسية، وتعني: ابتعد عن الدين، فلا تبالي بالدين ولا الاعتبارات الدينية، وقد ظهرت كمذهب أو مصطلح يناهض انحرافات الكنيسة في أوربا التي حرمت العلم والعلوم التجريبية كالطب والهندسة والصناعة وغيرها من العلوم.
[5])) للتوسع في هذا الأمر ينظر رسالة للدكتوراه بعنوان “الأصول الفلسفية للتربية في مصر الحديثة بين الفكر الإسلامي والفكر التغريبي” لعلي خليل مصطفى أبو العينين، 1981، ومنهج رفاعة الطهطاوي ومدرسته في الإصلاح بين الأصول الإسلامية والأفكار العلمانية، رسالة دكتوراه لعصام السيد محمود.
[6]))إذا تأملنا على سبيل المثال في المدارس الأجنبية التي انتشرت في مصر، فسوف نجد أنها قد خرجت عدداً من المصريين الذين يتقنون اللغات الأجنبية، وخاصة اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ويجيدون التحدث والكتابة بهما. ولاشك أن التنوع في التعليم قد يكون مرغوباً فيه، غير أن هذه المدارس كانت تشكل شباب الأمة تشكيلاً يتسق والنموذج الحضاري بها، مع قطيعة تامة بالموروث الحضاري الإسلامي، بل والمصري الخاص.
[7]))للتوسع في معرفة حقيقة هذا الفكر التغريبي الدخيل ينظر رسالة علمية جامعة نافعة بعنوان: النظريَّات العلميَّة الحديثة- مسيرتها الفكريَّة،وأسلوب الفكرالتغريبي في التعامُل معها لحسن بن محمد الأسمري.
[8]))ينظر: تحقيقا نشرته قناة “فوكسنيوز” (FNC) الأمريكية عبر موقعها الإلكتروني، يوم الاثنين 23 مارس 2015 عن الأوضاع الدينية في موريتانيا.