علاقة الدولة بالدِّين في الإسلام علاقة تلازم ووجود، فلا دولة للمسلمين إلا بالإسلام، ولا إسلام للمسلمين إلا بدولة تحمي حياض عقيدته وشريعته، وتذود عن وجود أتباعه وهويتهم.
ولعل أغلب المشاكل والتهديدات التي من المفترض أن تعيشها الدولة في البلدان الإسلامية في هذا القرن لها علاقة بالكيفية التي تدير بها سياسة الترابط أو الانفصال بين الديني والسياسي. في مغربنا الحبيب تدبير علاقة الديني بالسياسي تعرف اضطرابات لا تبشر بخير، وغالبا ما سيكون لها ما بعدها على المدى المتوسط، نظرا لتعنت وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، وإصراره على عزل وتوقيف كل خطيب أو واعظ لا يخدم فكرته في تدبير الشأن الديني.
الأيام القليلة الماضية شهدت عزل خطباء جدد، وسبقهم عشرات أمثالهم، القاسم المشترك بين ملفاتهم، هو تجاوزهم لحدود الحَجْر الذي يمارسه الوزير على الخطباء، ورفضهم القولبة العلمانية لوظيفة الخطيب والواعظ. وزير الأوقاف هو الوصي على مساجد المملكة، يفضّل منذ سنوات خلت أن يلعب دور الرقيب العتيد لكل ما يتفوه به الخطباء، يشدد في أغلب المناسبات على ضرورة أن يبقى الدين بعيدا عن السياسة، وذلك بضبط ما يصل إلى أسماع أربعة ملايين مغربي يتوزعون كل جمعة على 40 ألف مسجد، هذا في الوقت الذي يسمح فيه للسياسي أن يمس الدين.
الوزير ذو تكوين علماني، يعمل ليل نهار على عزل الدين عن الشأن العام، لكن فقط عندما يحاول الدين أن يكون مؤثرا في الشأن العام بالتوجيه والبيان، في حين يسارع الوزير إلى فتح الأبواب بالكامل أمام مدبري الشأن العام ليتكلموا في الدين دون حسيب ولا رقيب.
فهذا المجلس الاقتصادي والاجتماعي في دورته الـ61 التي انعقدت يوم الخميس المنصرم، تضمن تقريره الجديد عن أوضاع المرأة المغربية، دعوة صريحة إلى إلغاء تجريم الجنس خارج مؤسسة الزواج، حيث خلص إلى بعض التوصيات المباشرة التي تدعو إلى إلغاء الفصلين 490 و491 من القانون الجنائي. وسبقه المجلس الوطني لحقوق الإنسان في انتهاك المعلوم من الدين بالضرورة حيث دعا إلى المساواة في الإرث ضدا على آيات الله التي حددت الأنصبة واستمر العمل بها منذ دخل المغرب إلى الإسلام.
منطق سياسة السيد الوزير في تدبير علاقة الديني بالسياسي يشبه إلى حد كبير منطق من كانوا يدبرون الشأن الديني للعرب أثناء نزول الوحي، حيث وزعوا مخلوقات الله من الحرث والأنعام بينه وبين الأصنام، فجعلوا جزء منها لله وجزء آخر لشركائهم، لكن جعلوا ما هو لله يمكن أن يكون لشركائهم، وما هو لشركائهم يمنعونه أن يكون لله، فوصف الله حالهم في القرآن حيث قال: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون) الأنعام.
هذا الحكم السيء الذي يطبقه الوزير في تدبير الشأن الديني، يعمق الخلاف بين الدولة والملايين من المواطنين، حيث يعطي الانطباع لعامة الشعب أن الدولة تحارب الدين، وتستغله سياسيا لأغراض لا علاقة لها بالدِّين.
فالمؤسسات الدستورية يستغلها العلمانيون في الانتصار لمعتقداتهم العلمانية من خلال ميزانيتها وتوصياتها؛ يدعون من خلالها إلى الزنا والسفاح، ويحاربون فيها ما تبقى في القوانين الوضعية من أحكامٍ للشريعة الإسلامية، في حين بدل أن يُجيش الوزير الخطباء ليقوموا بتوعية الناس بخطورة الدعوات الهدامة، ويفندوا شبههم، نراه يعمد إلى أفواه العلماء والخطباء يكممها بالقوانين أو يسكتها بالعزل والطرد.
فما هي الأسباب التي تجعل الدولة تحارب علماءها ودعاتها؟
وما الذي يجعل الدولة تعجز عن إيجاد صيغة تتصالح من خلالها مع الدين والخطباء والعلماء دون أن تلجأ إلى العزل والحرب؟
وهل ستبقى الجماعات والتيارات الإسلامية دوما على خلاف مع من يدبر شؤون الدولة في المغرب رغم أنها تمثل الشعب من حيث العدد ومن حيث الامتداد الشعبي والتماهي مع مطالبه أكثر مما تمثله الأحزاب والنقابات؟
ولماذا هذا الانفصام أصلا بين الديني والسياسي في بلاد دستورها ينص على أن دين الدولة الإسلام؟
وهل هناك أمل أن يتصالح الديني مع السياسي في المغرب؟
كلها أسئلة راهنة تحتاج إلى تعميق البحث في أجوبتها، لكن ما يهمنا منها هو السؤال الأول: ماهي الأسباب التي تجعل الدولة تحارب علماءها ودعاتها؟
أولها: تاريخي، يرجع إلى الطريقة التي تم تخريج استقلال المغرب بها، حيث كان استقلالا توافقيا بين المغتصب وصاحب الحق، مشروطا بالحفاظ على مصالح فرنسا واستمرار وجودها في بلاد المغرب، فحال ذلك دون بناء استقلال بمعنى الكلمة تعطى فيه مقومات الهوية والدين مكانها اللائق بها من الحكم.
وثانيها: هيكلي، وهو نتيجة حتمية للأولى، حيث تم إقصاء العلماء من تدبير الشأن العام، فما دامت الدولة الحديثة التي أرسى دعائمها وتصورها رفاق الجنرال ليوطي، واختارت دولة ما بعد الاستقلال العمل بما تركته فرنسا من قوانين.
فحتمي ألا يجد الدين وعلماؤه، مكانا في مؤسسات الدولة الحديثة، فاختزلت مهمتهم في التوجيه اللطيف، والموعظة الحسنة، ولم يستردوا مكانتهم بعد الاستقلال كما استردها القصر، واستعيض عنهم بالنقابيين والبرلمانيين، كما استعيض عن المسجد بالبرلمان.
ثالثها: دولي وتمثل في عدم قدرة النظام في المغرب على أن ينفك من هيمنة النظام الدولي الذي تسيطر عليه الدول الإمبريالية، وتهيمن على مؤسساته ومنظماته وتصرِّف من خلالها عولمة النموذج العلماني الغربي للحكم وتنظيم الدول وسياسة الشعوب. فإذا تتبعنا امتثال المغرب لما تصدره الأمم المتحدة، نلاحظ أن هناك استمرارا مضطردا وعملا متواصلا لتعطيل وإزالة كل أحكام الدين الإسلامي الذي كان ينظم شؤون الدولة والشعب طيلة 14 قرنا، لصالح العلمانية الدولية، وبهذا يفقد العلماء مسوغات وجودهم في تدبير الشأن العام، ويصبح الإسلام في بلاد المرابطين والعلويين كالنصرانية في بلاد الجمهورية الخامسة الفرنسية.
تفاعل هذه الأسباب الثلاثة أفرز واقعا جديدا لم يكن موجودا في المغرب مما جعل كيانات ومؤسسات تخرج للوجود، تجلت صورتها في شكل تيارات إسلامية أو جماعات. فإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين قد ظهرت في سنة 1927 مباشرة بعد إعلان العلمانية في مؤتمر لوزان سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924، فإن الأمر في المغرب تأخر إلى ما بعد الاستقلال، لأن القصر والعلماء كانوا في تفاهم وتناغم ووحدة، ولم يكن مطلب تطبيق الشريعة والعمل بالإسلام مطلبا، بل كان من باب المعلوم بالضرورة.
فلما حيل بين العلماء وتطبيق الشريعة بالاستمرار في تبني القوانين الوضعية التي شرعتها فرنسا، ولما تأكد من خلال الالتفاف على رابطة العلماء في السبعينيات والثمانينيات أن العلماء لن يتمكنوا من التأثير، خرجت للوجود جماعات إسلامية تطالب بالرجوع إلى اعتماد الشريعة مصدرا أساسيا في التشريع.
هذه المعطيات التاريخية والدولية والوطنية نتج عنها واقع متشنج حكم العلاقة بين الديني والسياسي في المغرب، ولما تطور العالم في التعاطي مع ما أسمته أمريكا الحرب على الإرهاب، انخرط المغرب في الحرب، وتبلورت فكرة إعادة تنظيم الشأن الديني، التي أفرزت بدورها علاقات متشنجة مع أغلب المنتجين للخطاب الديني، نظرا لرفض غالبية العاملين في الشأن الديني الرسمي وغير الرسمي التماهي مع وجهة نظر وقرارات الوزير، مما جعل ظاهرة عزل الخطباء والوعاظ تتوسع دائرتها.
لقد باتت سياسة الوزير التحكمية في الشأن الديني خطيرة ومهددة للأمن على المدى المتوسط، فالمغرب ليس استثناء في هذا الأمر، فلا الدولة ستترك الدين ولا الجماعات والتيارات الإسلامية ستترك إنتاج خطاب ديني أو تتوقف عن تأطير تابعيها بالدِّين. فإذا كانت تجليات توتر العلاقة بين الديني والسياسي في بلاد القومية والبعث والناصرية قد أفرزت ما يعيشه العالم الإسلامي اليوم من دماء وقتل وخراب، فعلى الوزير في المغرب الذي لم يعرف -منذ كانت فيه دولة- استحواذا للسياسة على الدين، أن يعيد النظر في سياسته المؤذنة بتوتر لا تحمد عقباه، وبإفراز توجهات خطيرة غالبا ما ستكون عنيفة، لا قدر الله.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب