ثالثا: نقد موقف ابن رشد من الهداية والضلال:
أفرد ابن رشد مبحثا لموضوع الهداية والضلال في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة، تناوله من عدة جوانب انطلاقا من خلفيته الفلسفية الأرسطية في فهمه للنصوص الشرعية والمعطيات الفكرية، وهي التي سننتقده في بعضها إن شاء الله تعالى.
أولا إنه يرى أن آيات الهداية والضلال متعارضة، ولا يجب حملها على ظاهرها، كقوله تعالى: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) سورة الزمر: 7، و(وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) سورة فصلت: 46، و(فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) سورة إبراهيم: 4. ثم تأوّل قوله تعالى: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) بقوله: (بيّن إذ لم يرض لهم الكفر أنه ليس يُظلهم).
وقوله هذا غير صحيح، لأنه لا يصح وصف نصوص الشرع بأنها متعارضة، لأن الشريعة نصوصها مُحكمة ولا تحتاج إلا للفهم الصحيح لها، ومن الخطأ الفاحش حملها على التأويل الباطني التحريفي، وإنما يجب أخذها على ظاهرها وتفسيرها تفسيرا صحيحا يجمع بينها انطلاقا من ثوابت الشرع ومُحكماته وفق المنهج الشرعي في تفسير القرآن وفهمه.
وأما تأويله لقوله تعالى (ولا يرضى لعباده الكفر)، فهو تأويل لا يصح أيضا لأنه نظر إليه من خلفيته المذهبية المتعلقة بصفات الله تعالى، ولم يُفرّق بين إرادة الله ومشيئته، وبين محبة الله ورضاه. فلا يُوجد تعارض بين قوله تعالى: (فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) سورة إبراهيم: 4، و(وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) سورة الزمر: 7، ففي الآية الأولى نص الله تعالى على أنه هو الذي يهدي ويُضل بمشيئته وإرادته، كقوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) سورة القصص: 56، فالله تعالى لا يُوجد في مخلوقاته إلا ما شاءه وأراده، سواء أمر به أو لم يأمر به، فكل ما في هذا العالم أراده الله وشاءه، لكن ليس بالضرورة أنه يُحبه ويرضاه ويأمر به، ففيه ما لا يُحبه ولا يرضاه، وهذا الذي أشارت إليه الآية الثانية. فالله تعالى إن كان لا يرضي لعباده الكفر، فإنه -أي الكفر- موجود بكثرة في العالم، لكنه سبحانه أراده وشاءه، لكنه لم يُحبه ولا رضي به ولا أمر به. وهذا الذي غاب عن ابن رشد أو أغفله، لذا فإن قوله: (بيّن إذ لم يرض لهم الكفر أنه ليس يُظلهم)، ليس صحيحا، لأن الله تعالى هو الذي يهدي المؤمن برحمته وحكمته وفضله وعدله، لأنه سلك طريق الإيمان، وهو يُضل الكافر بعدله وحكمته لأنه سلك طريق الكفر والضلال، فهو سبحانه لا يُجبر على الكفر، لكنه يُضل أهله عندما يختارون طريق الكفر والضلال.
وثانيا إنه أوّل قوله تعالى (فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) سورة إبراهيم: 4، بقوله: (فهي المشيئة التي اقتضت أن يكون في أجناس الموجودات خلق ضالون، أعني: مهيئين للضلال بطباعهم ومسوقين غليه، بما تكنفهم من الأسباب المضلة من داخل وخارج).
وتأويله للآية ليس كما ذهب إليه، لأن هذه الآية يجب فهمها على ضوء النصوص الشرعية الأخرى المتعلقة بموضوعها، ولا تُفهم منفصلة عنها. فيجب أن نُفسر الشرع بالشرع من دون الذهاب بعيدا في تأويلها انطلاقا من خلفيات مذهبية مُسبقة بعيدا عن الشريعة وروحها و مقاصدها. لأن الآية التي ذكرها تُفسرها نصوص أخرى، فعندما نقرأ قوله تعالى: (فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ)، علينا أن نسأل: من هؤلاء الذين يُضلهم الله؟، ولماذا أضلهم؟، فيُجيبنا الشرع بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) سورة المنافقون: 6، و(إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) سورة الزمر: 3، و(وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) سورة النحل: 107، و(إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) سورة الأحقاف: 10، و(إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) سورة البقرة: 190، و(وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) سورة البقرة: 276، و(فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) سورة آل عمران: 32، و(وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) سورة آل عمران: 57، و(وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) سورة المائدة: 64، فهؤلاء هم الذين لم يُحبهم الله، وأضلهم ولم يُرد لهم الهداية. وعندما نقرأ قوله تعالى: (ويهدي من يشاء)، علينا أن نسأل: من هؤلاء الذين هداهم الله؟، ولماذا هداهم؟، فيُجيبنا الشرع بقوله تعالى: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة التغابن: 11، و(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) سورة يونس: 9، و(إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة النحل: 104. هكذا يُفهم الشرع الفهم الصحيح، فهو يُفسر نفسه، فأين ما زعمه ابن رشد؟