دأبنا على الغالب ونحن نفكر ونحلل ونتعاطى مع ظاهرة ما في جانبها السلبي طبعا، أن نلقي مع فرط ميل باللائمة على كل ما هو رسمي، حتى كاد هذا الميل في غير مبالغة أن يشكل عقدة في جوف المنصف قبل المتحامل، وتلك ولا شك علامة تؤشر بكل وضوح على أن تفكيرنا وتحليلنا وتعاطينا ليس حرا كما نتوهم، وإنما هو فعل وسلوك تتحكم في كله أو جله على الابتداء عوامل تأتي دائما من خارج سياق الحسبان، مشوبة بفقدان المناسبة والمشاكلة.
ولعل من أهم هذه العوامل، نجد طبيعة العلاقة بين الفرد ومجتمعه، أو بين المواطن وآليات ومؤسسات وطنه الرسمية، فهي علاقة تشوبها الاختلالات، ويعكر صفو مناخها فقدان التوازن البيني على رحى معركة مطلوب الحق ومقابل الواجب بين مكونات ذلك النسيج الهرمي المركب والجانح إلى التعقيد والتنافر المتواري وراء زيف الدراسات والتقارير والتنبؤات الرسمية وغير الرسمية، وهو التنافر الذي لا يمكن أن تسبر غوره وتقر بحجم وحقيقة وجوده الجولات والخرجات الإعلامية ذات المنتوج الاستهلاكي، الذي يعمد إلى استنطاق عينات من المواطنين روعي في اصطفائها ضوابط وضوابط، ومر كلامها عبر مناخل و”فلترات” ضيقة المسام، وذلك في مناسبات وأحداث متباعدة الشُقة الزمنية والمكانية.
ولنمثل لهذا الميل في واقع تفكيرنا وتحليلنا وتعاطينا مع ما يشهده قطاع التربية والتعليم من ترد وسقوط صار له صوت وصورة ورائحة، حيث نجد أنه لا الضجيج الأسري المتعالي في ألم وأنين، ولا الحركة الفكرية المتخصصة، والتي ما فتئت عاكفة في ترادف محاولات يائسة بئيسة من أجل تصحيح الوضع ورد الأمور إلى سالف عهد الازدهار والنبوغ والمردود الوازن كما وكيفا، كلاهما لم يستطع عبر عقود من الزمن فك الارتباط مع حركة الدوران المتكررة على سكة فلك ودور مسدود، حيث أثبتت التجربة أن التحرك التصحيحي لم يراكم إلا دورات يحاكي فيها السابق اللاحق، ويستنسخ الفشل متلوا بعين الفشل، والتهمة تلو الاتهام وهكذا دواليك…
فصك الاتهام الذي يأتي من النسيج الشعبي، هو نفسه عند الملاحظة الذي يأتي من التحرك الرسمي، فكل الكلام والشعارات بغض النظر عن مصدر تبنيها، تذهب مذهب الاستدراك أو الانتقاد الذي يوجه أصبع الاتهام للمناهج والبيداغوجيات والاستراتيجيات، أو أنها تذهب مذهب وضع اليد على الملف المطلبي الاجتماعي للأسرة التعليمية وعلى رأسها الحياة المادية أو الجانب الاكتسابي للأستاذ والمعلم.
ولعل أحدا لا يستطيع إنكار أن هذه الأمور محل الاستدراك هي جزء له دوره الفاعل في تكريس ذلك الوضع الكارثي الذي آلت إليه الأوضاع التعليمية ببلادنا وبلاد المسلمين عامة، ولكن المعيب في هذه المقاربة هو منطق حصر وقسر النتائج على هذه الأسباب دون غيرها، كما إغفالها لمناقشة وتحليل شخصية الأستاذ، الذي يعتبر آلية تنزيل ومصدر تماس حقيقي بين الوعاء المعرفي عند هذه الآلية من جهة، والفراغ الذي يمثله المتلقي والمراد شحنه وملء جعبته بالمعرفة والفكر والعلوم التطبيقية من جهة ثانية.
ولا شك أن الفزع إلى مناقشة وتحليل شخصية الأستاذ، لا يعني في إطار هذه المناقشة البحث عن الاختلالات المعرفية، أو النقائص التي شابت مرحلة التكوين، وتلقي أدبيات وقواعد إدارة أزمة الفصل الدراسي، فهذه أمور أخذت نصيبها في كل المقاربات التصحيحية، وإنما المقصود من هذه المناقشة هو محاولة العكوف على الجانب السلوكي المؤطر والمتحكم في حركة الأستاذ داخل المرتع التعليمي وخارجه حيث حياته الخاصة وما يمكن الوقوف عليه من مبادئ ومسلمات تعنيه هو كم تعني غيره في جانبه الوظيفي.
ونعني به الجانب الروحي أو جانب الاحتساب الذي لا ينافي واجب الاكتساب المشار إليه آنفا، فهو جانب نرى أن له دورا أخلاقيا هو الذي أعطى ولا يزال يعطي وسيبقى على طول خط السير يعطي التميز والفعالية، خصوصا أن النقص أو الاختلال المادي قد استطاعت الكثير من الأطر التعليمية جبره، وذلك من خلال فتح أسواق موازية لتصريف وبيع مجهودها الفكري وبضاعتها العلمية والأكاديمية، مع واجب التنبيه على ملحظ الإيغال والمبالغة التي طبعت هذا الفتح وذلك الجبر، وهو تنبيه له دواعيه كما له لوازمه، مما له علاقة من بعيد أو قريب بما وصل إليه حال التعليم من تهاو وترد هالك هنا وهناك وهنالك.
إن جانب الأخلاقي قد أثبت جدواه وفاعليته في العديد من التجارب التي دارت فيها معارك الإصلاح والتصويب على رحى المعطى السلوكي التربوي والأخلاقي، بل كان له الدور المميز والرئيسي في وضع لبنات وأسس الانطلاق نحو ذلك الإصلاح العزيز، وليس المقصود بهذه التجارب لفت الانتباه إلى تلك التي شابتها الأنفاس الإسلامية كالتجربتين الرائدتين لكل من ماليزيا وتركيا، وإنما التلميح يتعدى ويتجاوز هذا إلى غيره من التجارب التي كان للمعطى الخلقي الصرف والمتجرد عن أي مستند ديني أو أيديولوجي، ونعني بها مثالا التجربة اليابانية الرائدة والمبهرة والتي علم أنها أدمجت في الأقسام الابتدائية مادة الأخلاق والتربية على القيم والمثل العليا.
ولا جرم أن الحديث عن هذا المعطى وعن مدى تأثيره الإيجابي، هو حديث يجرنا بالقسر للكلام عن المكون الرئيسي في هذا الإصلاح الذي يعطي فارق التميز للتربية قبل التعليم بعطف لا يمكنه أن يتغافل حسنة الابتداء بالتربية قبل التعليم، فالأستاذ هو مرب قبل أن يكون معلما، وهو قدوة قبل أن يكون مصدرا للمعلومة، وهو أب إفادة له أفضليته عن أب الولادة، وهو الساهر على تنشئة زرع الأجيال تنشئة سوية، تنشئة تراعي أول ما تراعي مأمول الوصول بهذا الزرع إلى المحطة العلمية والمعرفية التي يكون معها وعندها هذا الزرع قادرا على اقتحام عقبة سوق النفع ومشتهى النجاح والرقي له ولوطنه، مستو على سوقه لا يخاف شيئا مما قد يحتمل أن يعترض سبيله، فإن حصل وخاف لم يستكن إلى دواعي هذا الخوف، وإنما أقدم ولم يحجم، بضابط إعداد العدة وأخذ الأُهبة التي تكون في خدمة هذا الإقدام وذلك الاقتحام، باعتقاد مفاده أن الإقدام دون مستند استعداد وكبير إمداد ما هو إلا محض تهور لن تحمد عقباه.
وهذه العدة هي زاد معلم الناس الخير وعماد دعوة مباشر الناشئة في مهمة التلقين والبناء، وبقدر ما يقل وزنها تتطاير وتتفرق صحف تفوقنا ونجاحنا، وبقدر ما نتغافل في إطار تحليلنا وتفكيرنا وتعاطينا عن ماهية هذه العدة وحقيقة ضرورتها، بقدر ما يقع التطفيف والزيغ والتيه عن لب الإصلاح وشرف مراده ومأمول تحققه، وبقدر ما نوفي هذه العدة وزنها وحقها بقدر ما نضمن لهذا الغرس حياة طيبة لا ينقطع إخراجها ولا يتوقف إنباتها…
وإن نظرة إلى دور الأستاذ اليوم تعطي للاستثناء حقه، تجد أن هذا الدور قد غادر محاضن المجاهدة، وبرح ثغور المدافعة، وطلق مهمة صناعة الأجيال طلاق بينونة كبرى.
فالأستاذ اليوم ذاهب في تحقيق وتلبية مطالب الجسد لا الروح، شأنه في ذلك شأن الطبيب والقاضي والمهندس، ولربما احتجنا مع الإبقاء على نعمة الاستثناء أن نضيف لهذا الخليط عالم الدين، إذ الجل موغل في هذا النوع من التحقيق والتلبية، قامع لصوت الضمير في دواخله، متغافل عن الكثير من القيم والأخلاق والمثل المهنية الرفيعة، من التي كانت حتى الأمس القريب تشكل قواعد انطلاق ومبادئ التزام، يقسم الكل على تبنيها والتحلي بزينتها والفزع إليها عند مجابهة شباك الشهوات، أو توهم غلبة لمطالب الجسد على حساب مطالب الروح، أو رصيد الاكتساب على حساب رصيد الاحتساب…
ولا شك أن من قال قولته التي صمدت في وجه عوادي التغيير، تحملها وتتغنى بها الأجيال تلو الأجيال، ويستدل بها أولو الألباب على رجحان كفة الاحتساب على مرجوحية كفة الاكتساب، ونعني بها مقولة الشاعر “كاد المعلم أن يكون رسولا”، لم يأت بها طوباوية مجردة منفصلة عن ذوق ما لمسه من حسن صنيع هذا المعلم.
ومن بديع وظيفته التربوية، ومن جميل حمله لأمانة التكليف، أمانة تربية النشء وتحلية فطرهم، ومن بعدُ تعليمهم وتجريعهم أنواع من العلم وضروبا من المعرفة، يفعل كل هذا ثم تجده لا يريد به جزاء من أحد ولا شكورا، كما لم يتجرد هو أي “الشاعر القائل” عن الاعتقاد الراسخ في كون الحرم التعليمي لم يكن يومها يستهو إليه طلبة الدنيا، أو الفارين من رمضاء البطالة، القاصدين بابه من أجل تحقيق مآرب ضيقة وتصفية حسابات لا تسمن ولا تغني من جوع، حيث كان قصد الباب من جنس الملاذ الأخير لإنسان فشل في تحقيق أمنياته التي تتلخص في دخول كلية الطب أو الصيدلة، أو ولوج معاهد الهندسة والتكنولوجيا المتطورة حيث لا تزال آفاق الاحتضان تتمتع بأحسن حال وألذها في مقام التشغيل.
وهكذا ومن منطلق صار معه التعليم عشبا مستباحا للفارين من وحشة البطالة، نجد أن التلازم أفقد هذا الحرم من حيث النسيج البشري صفة النخبوية، بل حتى في وجود هذه النخبة وعلى قلتها نرى في غير استيعاب مخل، أنها جاءت وولجت هذا الحرم منسلخة عن السقف الأدنى من المبادئ والقيم الحضارية المثلى، حيث طغت على أجنداتها الحسابات المادية المحضة.
فلم تكن في بيعها لما تملكه من بضاعة معرفية من الزاهدين، ولم نكن لنستغرب في ظل هذا المناخ الموبوء أن نسمع مثالا لا حصرا عن الأستاذ الجامعي في تونس أنه يقدم دروسا خصوصية لطلبته خارج الحرم الجامعي، ولم نكن لنستغرب عما وقع من جنس المعلم من تسفل في نقائص أخلاقية يعف القلم عن الانسراب مع تفصيلاتها المبكية، وقد تهيأ لي أن صليت الجمعة الماضية في ضواحي مدينة سلا العامرة، في منطقة “سيدي علال البحراوي” والمشهورة بمنطقة “الكاموني” نسبة لأحد المعمرين الفرنسيين، حيث حكى الخطيب بحسرة ودفق دمعة من على منبره حكاية يرجع سندها إلى مهاتفة خلوية تحمل شكوى موقعة من طرف جملة من تلاميذ البكالوريا هناك، مفاد هذه الشكوى أن أستاذ مادة الفيزياء وبعد حله لتمرين مشكل مغلق لم يستطع أحد من التلاميذ حله قال لهم مزهوا في غرور وجحود “لو نزل الله من السماء ما استطاع أن يحل هذا التمرين” تعالى الله عما يتخرص به المتخرصون علوا كبيرا.
وهذه ولا شك من عواقب هذا الولوج غير المرشد، ومن نزع يد الرقابة الغيورة المخلصة، ومن ترهل مناخيل الاصطفاء وجميل الاختيار ولا تعميم طبعا، فلا يزال الله يغرس في مثل هذه المحاضن غرسه المؤمن المنيب المخبت إلى أن تقوم الساعة، وهو غرس نستحضر فيه وفي الكلام عنه قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:”من قال هلك الناس فهو أهلكهم” ونعوذ بالله أن نكون من الهالكين.
وإنما كان القصد ولا يزال هو وضع اليد على مكمن الضعف وأصل الداء، سيما وقد لمسنا في كل المقاربات العلاجية المترادفة إغفالها في عمد أوفي غيره للملحظ الأخلاقي تحليلا وتفكيرا وتعاطيا، خشية أن تتهم بالتطرف والإرهاب، وما هي بتهمة بعيدة في ظل تغول حياة الترف وهيمنة المترفين على شرايين الحياة في ربوع جغرافيا المسلمين، نسأل الله ألا يؤاخذنا بما فعله ويفعله السفهاء منا…