تجريم التحرش الجنسي.. والسياسة الأخلاقية للدولة

التحرش الجنسي سلوك حيواني اجتماعي يصدر عن صاحبه بدافع إشباع حاجة جنسية غريزية، وله عدة طرق يُعَبَّر عنه بها؛ تبتدئ بالنظرة الفاحصة مرورا بالكلمة المتحرشة وتنتهي بالاعتداء المادي على جسد المتحرش به أو بها.
وقد نزلت الشرائع وسنت القوانين لضبط سلوكيات الإنسان حتى لا تعم الفوضى بين الناس؛ حفظا للكرامة البشرية والسلامة الجسدية، وصونا للعرض والنسل والدين.
فلا أحد من العقلاء يمانع أو يشكك في جدوى سن قوانين تجرم هذا الفعل الشنيع.
لكن ما يجب فتح النقاش بشأنه هو المنطلق الذي يجب أن ننطلق منه في معالجة هذه الجريمة، والأساس الذي سنبني عليه هذا القانون المجرم.
إذ لا يعقل أن نكتفي ككل مرة باستيراد قوانين غربية لتأطير السلوك والمزاج والتصرف بالنسبة للمغاربة.
فالواقع مقلق ومرشح للمزيد من القلق والخوف.
فإذا ما استنطقنا أرشيف المحاكم المغربية، وتقارير الشرطة، ندرك بما لا مجال للشك فيه أن المغرب يعيش فوضى أخلاقية عريضة؛ تعتبر القاعدة الصلبة لفوضى أمنية دفعت في كثير من المرات سكان بعض المناطق إلى الاحتجاج والتظاهر، تحسيسا للدولة بفداحة الوضع الذي يعيشونه، وخطورة مستوى الانفلات الأمني الذي يهدد سلامتهم وأمنهم ومعيشتهم.
ولعل من أكبر أدلة هذه الفوضى الأخلاقية، ما يتراكم شهريا بشكل مُلفت للنظر ومزعج للقلوب والعقول، من قضايا الفساد الأخلاقي وما تشهد به أحكام القضاء وإحصائيات المستشفيات من زنا ودعارة وخيانات زوجية، وكذلك قضايا الجنح الغليظة والجنايات العظيمة من قتل وضرب وجرح، وسطو بالسلاح وقطع للطريق، واختطاف للأطفال والبنات والنساء واغتصابهن، وآثارها المباشرة مثل الحمل من سفاح، والإجهاض من زنا أو اغتصاب؛ وما تخلفه الجرائم من حالات القتل العمد والإعاقات الدائمة الناتجة عن الضرب والجرح.
أما الجرائم من سرقة ونصب واحتيال، وسكر علني وعربدة ورشوة واستعمال العنف والسب والقذف، فتعتبر سلوكا اعتياديا لكثير من الناس؛ حيث تحاول مصالح الأمن والقضاء، أن تصفي أغلب ملفاته بالصلح بين الجاني والمجني عليه؛ أو تقتصر فيه على الغرامة المالية لكثرة السجناء وتجاوز أعدادهم للطاقة الاستيعابية للسجون، هذا رغم اجتهاد الدولة في بناء سجون جديدة!!
في ظل هكذا واقع دون مبالغة، تبدو مناقشة قانون التحرش بالنساء رغم أهميته، من الترف الفكري والاشتغال بالمهم عن الأهم، بل في حالتنا هذه هو كالاشتغال بالكماليات التحسينيات عن الضروريات الأساس التي من المفروض تحصيلها أولا، نظرًا لتوقف بناء الفروع عليها.
فكيف يمكن أن نحارب التحرش، في ظل الأمية والجهل والفقر وضعف الأمن واستشراء الفساد الإداري والأخلاقي؟؟
سيلزمنا إذًا أن نبني في كل حي سجنا كبيرا ليستضيف الشباب التائه المتحرش.
إن سَن قوانين تجرم التحرش يليق بدولة قطعت أشواطا في محاربة الجريمة والسلوك الجانح من زوايا مختلفة، مثل توفير التعليم عالي الجودة، وضمان العيش الكريم للفرد والأسرة، وإقامة الأمن العام وتوفير قطاع جيد للصحة العمومية يرفع المعاناة عن أفراد الشعب خصوصا الفقراء والمعوزين، وأصحاب الدخل الزهيد.
وحتى لو تحقق كل هذا، وأصر النخبة على اتخاذ الحرية الفردية المطلقة منهجا، فإننا لا نعدو أن نكون كمن ألقى الناس في اليم وحذرهم من البلل.
فغياب الإصلاح وانعدام المشاريع الجادة في المجالات الاجتماعية والسياسية والأمنية والتربوية والتعليمية، يدفعنا إلى طرح السؤال حول المنطلق المحفز على سن قانون يجرم التحرش بالنساء والفتيات.
كما يدفعنا إلى التساؤل حول السياسة الأخلاقية للدولة.
فما هو المنطلق الذي يدفعنا لسن هذا القانون؟؟
وهل هناك سياسة أخلاقية معينة تعتمدها الدولة لمحاربة الظواهر الاجتماعية بما فيها التحرش الجنسي؟
بالرجوع إلى الدستور نجد أنه ينص على أن “الإسلام دين الدولة”، لكن بتتبع القوانين المتفرعة عنه، نجدها تستصنم مفاهيم للحرية بأنواعها، لكن بمفاهيمها الغربية، خصوصا في مجال الجنس والخمور وما تعلق بالمرأة والجسد، بل تخشى الدولة أن تتهم بأنها دولة تنطلق في تشريعاتها من منظومة القيم الإسلامية.
فمفهوم الآداب العامة ومفهوم خدش الحياء رغم نص القانون، أصبحا متجاوَزَين بفعل التحنيط المقصود لهما، والتعطيل المتواطئ عليه لمقتضياتهما بين إدارات الدولة، وذلك لغلبة سياسة التطوير القسري الذي يتعرض لها المجتمع المغربي المسلم من خلال أشغال البعثات الثقافية، ومئات البرامج وملايين الدولارات الغربية التي تضخ سنويا تحت غطاء دعم ثقافة حقوق الإنسان ونشر قيم الديمقراطية بالتنسيق مع مختلف المؤسسات الجمعوية، التي تشتغل على التمكين للمفاهيم الغربية للكون والحياة والإنسان، ثم تأتي مئات من المسلسلات والمواد الإعلامية المختلفة، لتصديق ذلك، ناهيك عن تشجيع الخلاعة والمجون تحت غطاء الفن والإبداع.
فسياسة التطوير القسري للمجتمع حاضرة، ويُفسح لها المجال بالكامل عندما تكون السياسة الأخلاقية للدولة غائبة بل منعدمة.
ويبقى المانع من وجودها بل حتى الحديث عنها تغول النفوذ العلماني داخل مؤسسات الدولة، وانحراف الفكر لدى النخبة المتعلمنة الفرانكوفونية، التي ترى في منظومة القيم الإسلامية انغلاقا وتشددا، بل ترى في قيم العفة القطعية المُضمنة في القرآن والسنة رجعية وتزمتا بل تطرفا مسؤولا عن الإرهاب، وما خرجات نور الدين عيوش الذي يشتغل في الاقتصاد والتعليم والإعلانات واستغلال نفوذه لتمويل الرداءة التي ينتجها ابنه نبيل، سوى رأسٌ لجبل الجليد الذي يشتغل على التطوير القسري للشعب المغربي المسلم.
إننا عندما نحارب التحرش الجنسي من منطلق نسواني صرف يروم إخضاع القوانين المغربية للمفاهيم والتوصيات الغربية، دون الرجوع إلى قيمنا وديننا نكون خادعين للشعب خصوصا النساء منه، نوهمه بأننا نحميه لكن في الحقيقة نبقى متاجرين بآماله مستغلين لفقره وجهله.
إن أكبر عوامل إفراز التحرش يكمن في التالي:
– غياب سياسة أخلاقية عامة للدولة.
– انعدام الإرادة السياسية للرجوع إلى القيم الدينية والأخلاقية.
– استصنام المفاهيم الغربية المتعلقة بالحريات الفردية.
– التحفيز المستمر للشهوات عبر الإعلام.
– التفسخ الفظيع والعري الفاضح في الشوارع والشواطئ والمناقض للدين والقانون.
وغيرها.
إننا أبدا لن نقضي على التحرش مهما كانت القوانين المجرمة له صارمة ورادعة، وذلك لكون التحرش مسؤولية يتقاسمها الطرفان، لكن العقل النسواني العربي المسيطر على المرجعية الدولية في سن مثل هذه القوانين، يأبى أن يمس بجانب المرأة ونراه يلوم باستمرار جانب الذكر الرجل، وإن كان الوقائع تؤكد على أن الرجل قد يتحرش به، وهذا معروف لدى العموم.
لكننا يفرض علينا أن نمر من القنوات المحددة لنا كفئران التجارب، لا شيء نصدر فيه عن خصوصيتنا وهويتنا وديننا.
لم يغفل الله مسألة التحرش في القرآن بل صورها أحسن صورة، وذلك لما قَص علينا تحرش امرأة العزيز بنبي الله يوسف عليه السلام، وأرشد إلى أن دواءه هو الاعتصام بالله، والخضوع لمنظومة قيم العفة التي استحب السجن على أن ينتهكها: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ). قيم العفة هذه كانت مشتركة بين أمم الأرض قبل ظهور العلمانية الدولية وانتصارها على النصرانية وتفكيك مجتمعاتها، وقبل أي يتم إخضاع الدول الإسلامية للنظم العلمانية التي دخلتها على متن الدبابات.
وعبر تاريخ البشرية لَم يكن يشذ عن الخضوع لمنظومة قيم العفة سوى قرًى ومدنا، أرسل الله إليهم رسل ليبينوا لهم انحرافهم ويهدونهم سبل الرشاد، فاستكبروا وآذوا رسل الله، فسلط الله عليهم العذاب كقوم نبي الله لوط عليه السلام.
لقد عالج الإسلام مسألة الشهوة الدافعة إلى التحرش بإرسائه لمنظومة للعفة جعلها المانع دون الوقوع في هذا التسيب المدمر.
ولنتأمل كيف نبه الله سبحانه في هذه الآيات إلى المتحرشين الذين في قلوبهم مرض:
)فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا) الأحزاب(32).
) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)الأحزاب(59).
فهذا كلام خالق البشر اعتبر الكلام الخاضع ولباس التبرج سببا في التحرش، فهل يُؤْمِن من يحارب التحرش في بلاد المسلمين أن القوانين يجب أن تشمل منع اللباس المثير للشهوة الدافع إلى التحرش؟؟
أي الاعتراف بأن للطرف المتحرش به مسؤولية في عملية التحرش يجب أن يضطلع بها، خلافا للمفهوم الغربي الذي ينفي بقوة أي مسؤولية للأنثى، استجابة للنزعة النسوية المغرقة في التعصب ضد الرجل.
هذه النزعة التي يتوارى أصحابها خلف الانتصار للمفهوم المادي للحريات الفردية والتي يجعلونها حاكما على الفطرة، متحكمة في التشريع.
إننا عندما نفعل ذلك لن نعدو أن نكون مقلدين للغرب الذي عجز رغم تقدمه السياسي والعلمي والتكنولوجي ورفاهية شعوبه أن يقضي على هذه الآفة، حيث نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية، بلاد الحريات وعابدة الليبرالية؛ تحتل المرتبة الأولى في معدلات التحرش الجنسي وكذا معدلات الاغتصاب.
فهلا توقفنا عن هذا التقليد الماسخ لكياننا وشعبنا وهويتنا، وفتحنا نقاشا مجتمعيا حقيقيا حول السياسة الأخلاقية العمومية للدولة.
فهل نمتلك الجرأة للاعتزاز بمنظومة قيمنا الإسلامية وبثروتنا التراثية الأخلاقية والاستعانة بها في رسم السياسة الأخلاقية للبلاد والعباد؛ أم سنستمر في سياسات الإخضاع القسري للمجتمع المغربي لمفاهيم الغرب اللادينية المهربة استجابة للتقارير الغربية والتوصيات التي يفرضونها بقوة الديون والمنح المؤدى عنها؟؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *