امحمد رحماني/ باحث في مختبر الدراسات المقاصدية وقضايا الاجتهاد والتجديد (جامعة محمد الأول بوجدة)
جرت حكمةُ اللهِ أنْ يختلفَ الناسُ في الأديانِ والعقائدِ والعباداتِ والمعاملاتِ، وهذا الاختلافُ الواقعُ لابد له منْ معيارٍ محايدٍ يتحاكمُ إليه المختلفونَ، به يُمَيِّزُونَ بين الحقِّ والباطلِ والخطأِ والصوابِ والراجحِ والمرجوحِ والفاضلِ والمفضولِ.
هذا المعيارُ يجبُ أنْ يُحْتَرَمَ وَيُوَقَّرَ، لأنَّ أيَّ عبثٍ يصيبهُ سيربكُ الحقيقةَ وطريقةَ الاهتداءِ والوصولِ إليها.
هذا المعيارُ أصولهُ موجودةٌ في فِطَرِ الناسِ منذُ خلقهم اللهُ، فأيُّ مخلوقٍ إلاَّ ويعلمُ الحقيقةَ في قرارةِ نفسهِ إذا رجعَ إلى هذا المعيارِ الذي اقتنعَ بهِ العقلُ وقَبِلَهُ القلبُ، وما له لا يقبلهُ وهو معيارُ الفطرةِ وميزانُ العقلِ؟
وفي أشهرِ المناظراتِ في التاريخِ البشريِّ كان سيدنا إبراهيمُ ينتصرُ على أهلِ الباطلِ بناءً على هذا المعيارِ العقليِّ الفطريِّ المحايدِ ، الذي يرجعُ إليهِ المختلفونَ ﴿وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ﴾ الأنعام: 83.
فأصولُ هذا المعيارِ فطريةٌ في الخلقِ أجمعينَ، ولا يَحتاجُ إلى أدلةٍ للتفريقِ ولا شواهدَ للتعليقِ، فالتوحيدُ واضحٌ والشركُ فاضحٌ.
هذا المعيارُ واضحٌ في المسائلِ الكبرى: من وجودِ اللهِ وتوحيدهِ وعبادتهِ فضلاً، وإنكارِ وجودهِ والإشراكِ بهِ جهلاً، بينَ حقٍّ وباطلٍ.
ولكنهُ في المسائلِ الصغرى أقلُّ وضوحاً، خصوصاً حينما يكونُ الخلافُ بينَ راجحٍ ومرجوحٍ وفاضلٍ ومفضولٍ، لا بينَ حقٍّ وباطلٍ وكفرٍ وإيمانٍ، حيثُ أنَّ المختلفينَ قد يعبثونَ بهذا المعيارِ دون أن ينتبهوا، منْ أجلِ أن يصلوا إلى رأيٍّ راجحٍ في نظرهم، فيهددونَ سلامةَ المعيارِ نشوةً في الانتصارِ، من أجلِ مصلحةٍ في رأيٍّ تابعٍ وقولٍ آخرَ متبوعٍ، فإذا مَادَ هذا المعيارُ فإنَّ جميعَ المسائلِ التي تُعْرَضُ عليه سَتَمِيدُ وتَرِيبُ وتعودُ يَبَاباً من الضعفِ والتناقضِ، لذلكَ فسلامةُ المعيارِ أهمُّ من سلامةِ الرأيِّ المُتَوَصَّلِ إليه، لأنَّ الخلافَ ليس بينَ حقٍّ وباطلٍ، وإنمَا بينَ راجحٍ ومرجوحٍ وكلاهما مأجورانَ إذا سَلِمَ المعيارُ المعتمدُ عليهِ، فالمجتهدُ مأجورٌ في كلا الحالتينِ إذا أخطأ أو أصابَ في النتيجةِ، لكن إنْ عبثَ بالمعيارِ سيكون آثماً آنذاكَ، وعليهِ حَرِصَتِ الشريعةُ على الاعتناءِ بالمعيارِ أو الطريقةِ أو الاستدلالِ أو الاجتهادِ، لمَا تراهُ فيهِ منْ أنهُ قَمِينٌ بالحفظ من الميل والزلل، فلابدَ منَ الاعتناءِ بالاستدلالِ أكثرَ من عنايتنا بالرأيِّ الناتجِ عن الاستدلالِ، ولذلكَ قد لا يَتَفَهَّمُ الكثيرُ نقدَ تراجعِ الدعاةِ عن الفتاوى، ويقولونَ: وما الذي وقعَ ؟ قد ظهرَ لهُ اليومَ ما كان خَفِيّاً عنهُ البارحةَ، فنقولُ: ليتَ الأمرَ كذاكَ، محصورٌ في رأيٍّ ظهرَ أو قولٍ اشتهرَ، بلِ الأمرُ تعدى الرأيَّ المستدلَّ عليهِ إلى المنهجِ المستدلِّ بهِ، فقد عبثَ بالمعيارِ من أجل الخلوصِ للرأيِّ الصحيحِ في نظره البارحةَ، السقيمِ في منظورهِ اليومَ، فلو صحَّ الاستدلالُ لصحَّ الرأيَّ الظاهرُ ولما غُيِّر القولُ المشهورُ.
ومن أبشعِ طرقِ التعاملِ مع المعيارِ أو الاستدلالِ والتي تصيبهُ بالخللِ:
أولا: حشدُ الأدلةِ وحشرها للانتصارِ لرأيٍّ معينٍ: فتحشرُ الأدلةُ كلها صحيحُها وضعيفُها، مطلقُها ومقيدُها، خاصُّها وعامُّها، في بوتقةٍ واحدةٍ، تربكُ الاستنباطَ أثناءَ الاستدلالِ، فيعزبُ عن المجتهدِ الوصولُ للاجتهادِ السليمِ والرأيِّ السديدِ لِتَشَعُّبِ الطرقِ وتشتتِ الأفكارِ وتعددِ الآراءِ لكثرةِ الأدلةِ وتَنَاصِيهَا، فيذهبُ وقتٌ ثمينٌ في دراسةِ ما لا يفيدُ في الاستنباطِ ولا يهدي في الاستدلالِ، ولو صُرِفَ الوقتُ في الدليلِ القويِّ لكان أحسنَ وأفضلَ وأنفعَ.
ثانيا: اتباع الآراء المتشعبة والطرق المختلفة للوصول للرأي الصحيح: وهذا يصيبُ الاستدلالَ بالضعفِ وعدم الضبطِ، فنأخذُ بعضاً مما قال به الإمام الشافعي في مسألةٍ ما، وبعضا مما قال به الإمام مالك في مسألةٍ ما، وبعضا مما قال به الإمام أحمد في مسألة ما، وبعضا مما قال به الإمام أبو حنيفة في مسألة ما، لكي نصلَ إلى مسألةٍ لا يقول بها أيُّ أحدٍ منهم، فلا يستطيع المستدلُ آنذاك أن يميزَ بين راجحٍ ومرجوحٍ في تلك المسائلِ لوقوعِ الخلطِ فيها .
ثالثا: اعتماد التيسير والتشديد في معرفة الصواب والخطأ: فالتيسيرُ والتشديدُ يصلحانِ في مقام المرجوحات والمتبوعات، ولا يكفيان لأن يكونا دليلا للتفريق بين الصواب والخطأ في المسائل المهماتِ، والنبي صلى الله عليه وسلم ما خُيِّرَ بين أمرينِ إلا اختارَ أيسرهما ما لم يكن إثماً ، بمعنى أنَّ قضيةَ البحثِ عن الاثمِ أسبقُ من مراعاةِ التيسيرِ والتشديدِ، وهَمُّ الوقوعِ عليهِ يفرجهُ معرفتهُ قبلَ الاختيار، وقضيةُ إدراكِ الاثمِ تَتَحَصَّلُ بأدلةٍ شرعيةٍ صحيحةٍ، فإذا انعدمَ الدليلُ على وجودِ الاثم صِيرَ إلى التشديدِ والتيسيرِ ولا حرجَ، ولو كان الترجيحُ في المسائلِ يدركُ بالأيسرِ والأشدِ؛ لكانَ كل واحدٍ فينا قادراً على معرفةِ الصوابِ دون الرجوعِ إلى السنةِ أو الكتابِ، فمتى أدركهُ الخلافُ مالَ لأيسرِ الأقوالِ إنْ كانَ مُيَسِّراً، ومالَ لأشدها إنْ كان مُشَدِّداً مُعَسِّراً، وليس هذا بمنهجٍ يُسْتَدَلُّ بهِ .
رابعا: عدم ضبط الحماس بما يناسق الأدلة ويناسبها: فكثيرٌ من الاستدلاليينَ يُفْرِطُونَ في الحماسِ لرأيٍّ معينٍ ويجزمونَ له فوق ما توجبهُ الأدلةُ، وهذا معروفٌ عند المقلدةِ العمياءِ، ففرطُ حماسهم لرأيٍّ أعماهمْ عن معرفةِ الدليلِ ودراستهِ، لذلك تجدهم لا يفرقون بين معاقدِ الاجماعِ ومواردِ النزاعِ، ولا بين دليلٍ شرعيٍّ واضحٍ، أو اجتهادٍ قويٍّ، أو رأيٍّ راجحٍ واخرَ مرجوحٍ، فحماسهم أغناهم عن ذلك كله، وهذا عينُ الخللِ والضعفِ في الاستنباطِ، إذْ يُصَيِّرُ الحماسَ موازياً للأدلةِ الشرعيةِ عند الاستدلالِ.
خامسا: عدم التأكد من صحة الدليل المعتمد: فلا يكلفُ المستدلُ نفسه عناءَ الرجوعِ لمصادرِ التوثيقِ للتأكدِ من صحةِ الأدلةِ التي يستدلُ بها ويعتمدُ عليها، ولا بوضعها الأصولي من إجمالٍ وتقييدٍ، وظنٍ وقطعٍ، مع العلمِ أنَّ أربابَ هذا العلمِ انتهضوا لهذه المهمةِ بحيث يندرُ وجودُ حديثٍ لم يدرسوه، أو إسناد لم يَخْبِروهُ، ودونك الشوكاني والحاكم والمعلمي وشاكر والألباني فهم حجة على غيرهم في هذا الباب.
سادسا: ضعف التعامل مع الدليل الصحيح: إذ يتقدمُ للدليلِ من لم يفقهْ شروطهُ من بسطةٍ في علمِ اللغةِ والنحوِ والصرفِ والأصولِ، فَيُفْتِي بقولٍ اليومَ ويَعْدِلُ عنه غداً بِعُذْرِ ظهور الادلةِ وحُجَّةِ تَغُيُّرِ الواقعِ، وإنما هو عدمُ اكتمال الرؤيةِ والضعفُ في الرَّوِّيَةِ، وبسبب هذا الخلل في التعامل مع الدليل الصحيح؛ ظهرت آراءٌ غريبةٌ تخالف ما عليه جماهير العلماء إن لم تخالف الإجماع، فصح فيها قولهم: لو سكت من لا يعلم لقلَّ الخلاف.