ضاق صدر نخبة عريضة من المجتمع المغربي من كوادر في التعليم وأطباء وصحافيين ومثقفين وفنانين، من التنامي الخطير للظواهر الشاذة في الفضاء العمومي الواقعي والافتراضي بالسوشل ميديا. فمن “روتيني اليومي” إلى “فضائح البولفار” ومن “حشيش طوطو” إلى “العري والإيحاءات الجنسية بمنصات يوتيوب وفايسبوك”.
لا يملك المواطن العاقل حيال كل هذه الظواهر إلا أن يقول “ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا”. هل نحن أمام ظاهرة عرضية ستزول أم أمام وضع خطط له بليل ليقهر ويدمر تربية قيمية بنتها سواعد الأباء والأجداد لقرون.
لا يمكن أن نفهم ما يجري دون الرجوع للسياق التكنولوجي والسياسي الذي أنتج ما يسمى اليوم بـ “السوشل ميديا”.
عالم الإنترنت بدأ غريبا ومعقدا، لكن ما لبث أن أصبح لا يفارقهم بل ذهب البعض إلى أن اعتبره عالمه الحقيقي وبات كثيرون يعتقدون أنهم لا يستطيعون الحياة بدونه.
نشأ الإنترنت في الستينيات في وحدات الجيش الأميركي، وكانت البداية عبارة عن شبكة تسمى “أربانت” (ARPA)، وكانت شبكة بدائية لنقل البيانات بين أجهزة الحاسوب في ذلك الوقت، ما لبثت أن تطورت في السبعينيات إلى شبكة “إن إس إف” (NSF)، التي شهدت تطورات كبيرة في عالم الاتصالات.
ومع تطور الشبكات في بداية الثمانينيات، وإطلاق شركة مايكروسوفت بعد ذلك لنظامها الشهير “ويندوز”، دخلت الإنترنت عالما جديدا متطورا، وظهرت إرهاصاته في فيلم أميركي شهير يدعى “الشبكة” من بطولة ساندرا بولوك، وذلك قبل الوصول إلى عصر صفحات الإنترنت التي تطورت من “ويب 1” ثم “ويب 2” إلى “ويب 3” حاليا، إلا أنها تستعد في هذه الأثناء لدخول مرحلة “ويب 4”.
وبعد عام 2000 أصبحت البنية التحتية للإنترنت شبه ثابتة، وأصبح التطور واضحا أكثر على مستوى البرمجيات والخدمات التي تقدمها شبكة الإنترنت، فتطورت صفحات الإنترنت الثابتة إلى صفحات ديناميكية تعتمد على لغات البرمجة المختلفة، التي مهدت لظهور جيل جديد من خدمات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في فيسبوك وتويتر وغوغل بلس. لكن تنامي “التفاهة” على مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات الفيديوهات مثل يوتيوب وإنستغرام وتيك توك وغيرها، جاء بفعل تحول هذه المنصات لسوق “إشهار” للمنتجات وبالتالي صنعت لنفسها سوقا اقتصادية تدر ملايير الدولارات من الأرباح على عدة فاعلين اقتصاديين. ولم يكن أمام هذه السوق سوى تحدي واحد هو جلب المشاهدين بأية طريقة ومن ثمة نشأت القاعدة التالية: اجلب لنا المشاهدين للمنصة وستربح الدولار بدون توقف.
الأمر لم يعد مقتصرا على نشر تفاهة تطوعية بل أصبح الأمر خطيرا، التفاهة مقابل الدولار. إذن السياق التكنولوجي والقوانين الاقتصادية داخل هذه المنصات هي التي خلقت التفاهة وروجتها على أوسع نطاق، وأينما كان الربح الفاحش كانت الخسارة القيمية والأخلاقية فاحشة كذلك.
المغرب لم يكن معزولا كجزيرة عما يقع، أبدا، بل المغرب يحسب على خانة الملتحقين بالعولمة باكرا، وبالتالي أصبحت سوقنا الافتراضية ملجأ من لا ملجأ له من التافهين والمروجين للحمق والفحشاء علنا. وفي هذا السياق تحضرني مقولة عظيمة لكاتب لا اتذكر اسمه بدقة: “في الماضي كان الحمقى ينشرون حماقاتهم في الزوايا الضيقة للمجتمع، من حانات وخمارات، ولكن بفضل الانترنيت خرج هؤلاء الحمقى من الحانات والخمارات للعلن، وأصبح لهم صوت ينقل أفعالهم الصبيانية”.
لن أجد أبلغ من العريضة المفتوحة التي أطلقت مؤخرا بالمغرب لمحاربة التفاهة، للحديث عن مخاطر التفاهة على الأمن القيمي والروحي للمغاربة. فهذه العريضة كانت بمثابة ناقوس الخطر الذي سينبه المغاربة لخطورة ما يقع داخل عالمنا الافتراضي بالمغرب.
العريضة المفتوحة للتوقيع اختارت عنواناً لافتاً ويحمل دلالته في محتواه، وهو “توقفوا عن تحويل التفاهات إلى قدوة ونجوم”. الخطاب هنا موجه إلى متابعي هؤلاء وإلى عدد من المواقع الإلكترونية التي تقتات في يومياتها الإخبارية على فيديوهات “تافهة”، بل تستضيف “أبطالها” في حوارات تسمى “حصرية”، ويصبح صاحب المحتوى التافه نجماً وقدوة، خاصة في الجانب المادي وظهور “آثار النعمة” عليه، مثل تغيير المنزل أو امتلاك واحد بعد أن يكون قد بدأ مسيرته “اليوتيوبرية” وهو في منزل عادي، فيتحول إلى شقة فخمة وسيارة فارهة ولباس من ماركات معروفة.
العريضة المذكورة أعلن الموقعون عليها عن استهجانهم وإدانتهم “للتسيب والتفاهات التي أصبحت تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، من خلال التنافس على نشر محتويات تكرس الجهل والميوعة والتمييز والإساءة لصورة المرأة والانحلال والترويج لخطاب الكراهية بلغة وصور تحط بالكرامة الإنسانية، مع الاستهانة بجدوى التربية والتعليم والكفاءة والقدوة، من أجل تحقيق أعلى قدر من نسب المتابعة والمشاهدة لغاية جني الربح المادي السريع والشهرة المصطنعة”.
ووجّه الموقعون على العريضة الأولى من نوعها مناشدة إلى “كافة المؤسسات والهيئات من مختلف المواقع الرسمية والمدنية، خاصة الحقوقية والتربوية والإعلامية والثقافية، بالتدخل العاجل لوضع حد لهذه التفاهات المنتشرة على وسائط التواصل الاجتماعي والتي لا علاقة لها بحرية التعبير والاتصال، مع العمل على فتح وسائل الإعلام العمومي للتوعية بخطورة الترويج لمثل هذه الظواهر وتشجيعها بفتح مساحات واسعة لها في وسائل التواصل والإعلام”.
الباعث الأساس لهذه العريضة هو تنامي ظاهرة الفيديوهات التافهة ومحتواها السيئ والرديء، وكان أحدثها بثّ مباشر لسيدة دأبت على نشر يومياتها بشكل فضائحي، وكانت موضوع توقيف من طرف الشرطة المغربية التي سارعت إلى اعتقالها بسبب آخر منشوراتها الكارثية، والتي تروج لمحتويات رقمية بواسطة الأنظمة المعلوماتية تتضمن إخلالاً علنياً بالحياء.
بالنسبة لأصحاب العريضة، فإن المشكل يكمن في تحويل التافهين إلى نجوم، وبينما الأمن يقوم بواجبه في هذا الباب، نجد مواقع إلكترونية تحتفي بهؤلاء وتمنحهم الحيز الأكبر ضمن موادها المنشورة، كما أن عدد المتابعين لهم في تزايد، وهذا هو العجيب والغريب في الوقت نفسه.
في السياق نفسه، تحدث المخرج السينمائي عبد السلام الكلاعي عن التفاهة ليس فقط في مواقع التواصل الاجتماعي، بل حتى في السينما والتلفزيون. وقال: “واقع المحتوى (الترفيهي) المغربي، تلفزياً وسينمائياً ويوتوبياً، لا جودة فيه، بل هو ساقط في التفاهة وقلة الذوق وانعدام الوعي”.
وأوضح أن “مقولة (الجمهور يريد هذا) التي يحتمي بها كثير من منتجي التلفزيون والسينما ومقدمي المحتوى في مواقع التواصل الاجتماعي أوصلتهم لمستوى هابط وسطحي ومشين في المضمون والشكل، وأوصلتنا كأمة ذات حضارة وتاريخ وثقافة لوضع مخجل جدا”.
وأضاف الكلاعي موضحاً موقفه قائلاً: “أنا لست ضد وجود برامج وأفلام ومحتويات تبتغي الترفيه على الجمهور، لكن هناك مجموعة من المراحل التي يتعين اتخاذها لتحسين المحتوى الترفيهي، أبرزها وأولاها استهداف التعليم والتثقيف ورفع الوعي عن طريق الترفيه، وعدم اعتبار المجتمع من طرف صناع الترفيه مجرد أرقام وقياس عدد مشاهدات وكمية متابعين وعدد تذاكر مباعة”.