1-في قضية الأسرة.. تنكشف “عورة الحداثوية”
تقف وجهة النظر الحداثوية (أو “الحداثية” كما هو رائج إجرائيا) على النقيض من قيم أصيلة في المجتمع المغربي، على النقيض مما به كان تماسكه وتأسست شرعية دولته وسياسته. وتعتبر الأسرة مختبرا لآراء هذه الفئة، فيه “تنكشف عوراتها” وتظهر غايات مواقفها ومقاصد شبهاتها.
كل نقاش في الأسرة، هو نقاش في المجتمع، وبالتالي في الدولة. ليس الأمر مرتبطا، إذن، بأفراد يجب أن يتصرفوا كما يحلو لهم، بل بمجتمع يهدده التفكيك الثقافي والاجتماعي ودول تصون سيادتها وتحفظ حدودها، بما للحدود من معنى واسع لا يقتصر على الجغرافيا فحسب.
لا يتخذ الخلاف بين طرفي المجتمع المغربي، الحداثويين من جهة والمدافعين عن خصوصيته وهويته من جهة ثانية، شكل خلاف ثقافي أو فكري، أو حتى على مستوى تأويل الإسلام فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو قانوني. وهذا ما يطفو على السطح كلما كانت هناك دعوة رسمية لمراجعة مدونة الأسرة، لتتكرر سجالات ما سمي ب”خطة إدماج المرأة في التنمية” من جديد.
من شأن هذا الخلاف أن يتكرر دائما مادام في المجتمع تقاطب غير متكافئ، بين أقلية متأثرة بالغرب وثقافته وقيمه، وأكثرية لا ترى حلا لمشاكلها ولا انتظاما لحياتها وعيشها وعلائقها إلا بالشريعة والعرف وما فتح الفقهاء ذريعته من الوسائل المباحة في مقاصدها المطلوبة.
2-عصيد يدعو إلى تجاوز “الفقه التراثي القديم“
وفي هذا السياق جاءت دعوة أحمد عصيد، في تصريحات نقلتها وسائل إعلامية، الحركة النسائية في المغرب إلى “رد الاعتبار للحوار الوطني الحقيقي الذي يبت في كل شيء”.
كما قال إن “هضم حقوق المرأة هو هضم لحقوق الرجل كذلك”، وبـ”وجود ظلم يلحق النساء في مجتمعنا”.
أما الوسيلة الكفيلة بتجاوز هذا الواقع، في نظر عصيد، فهي “نص قانون منسجم داخليا، وأيضا منسجم مع الدستور، عكس النص الحالي والذي رغم انسجامه فإنه لا يسمح بالتغيير وضمان الكرامة وأيضا حقوق الإنسان”.
ويؤكد عصيد أن انسجام النص الحالي، أي مدونة الأسرة، يتحقق “في إطار الفقه التراثي القديم”، وليس في المرجعية التي يدعو إليها، أي مرجعية “القانون الوضعي” في ذاته ومقتصرا على ذاته، حيث تسود الكرامة وتتحقق حقوق الإنسان!
نقول: ليست الحركة النسائية هي المخولة الوحيدة لتمثيل النساء بالمغرب، والبت في كل شيء (وعين عصيد هنا على الفقه والتراث والشريعة) ليس من اختصاص كل أحد، بل للقانون أهله، وللفقه أهله، وللسياسة أهلها، ولباقي العلوم مختصون يبدون فيها الرأي العلمي لا “المطامح الحداثوية” العابرة للحدود والمتلفة للخصوصيات. أما الكرامة وحقوق الإنسان فليسا فرديين كما هو رائج اليوم عند بعض دعاة الليبرالية على الطريقة الغربية، وفي أبشع صورها (مرحلتها الفوضوية)؛ بل هما اجتماعيان تاريخيان يقاسان على مصالح المجتمع والدولة، المعاش والسياسة، لا على أهواء الأفراد وميولاتهم الفكرية والفلسفية بل والغريزية غالبا!
3-أيلال.. توفير الأساس الإديولوجي للحداثوية
يعتبر رشيد أيلال، صاحب الكتاب المعيب شكلا ومضمونا “صحيح البخاري.. نهاية أسطورة”، أحد المدافعين عن وجهة النظر “الحداثوية” في قضية الأسرة، ولو لم يتحدث في موضوع “مراجعة مدونة الأسرة” أساسا.
يدعي أيلال، في حوار له مع منبر إعلامي، أن “ممارسة الدعارة ليست حراما بمنطوق القرآن، بل المحرم هو إجبار النساء على ممارستها”.
ويستمر في جرأته قائلا إن “الحجاب ليس إجباريا في القرآن، إنما نصح به النبي نساءه لوحدهن، حتى يتم تمييزهن عن الأمات المستعبدات اللواتي يمارسن الدعارة”.
لا يناقش أيلال موضوع “مراجعة مدونة الأسرة” بشكل مباشر، إلى أنه يوفر الأساس الإيديولوجي لدعاة “الحداثوية”، وحتى تصبح الأسرة على هامش غريزية الإنسان وغابويته، حيث لا حرمة لعلاقة (على النقيض من تحريم الزنا) ولا تعفف في مظهر (على النقيض إيجاب حجاب المرأة).
4-سعيد الكحل.. مقاربة علاجية أم وقائية؟
وسيرا على خطى وزير العدل عبد اللطيف وهبي، قال سعيد الكحل إنه “اعتبارا لتطور المجتمع، فإن الخطوبة الرسمية يسبقها تعارف بين الطرفين/الشريكين وتوافق على الزواج؛ وهذا في حد ذاته وعد بالزواج الذي هو معنى الخطوبة. ومن ثم ينبغي تحميل مسؤولية الحمل للطرفين معا. وفي حالة الإنكار فإن اللجوء إلى تحليل الحمض النووي DNA هو الوسيلة الوحيدة لإثبات النسب بدل الشهود أو اللعان. ذلك أن المصلحة الفضلى للطفل تقتضي من المشرع المغربي الاجتهاد في إطار الدستور الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة ويساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات وأمام القانون، فضلا عن الإقرار بسمو المواثيق الدولية على التشريعات الوطنية”.
ويضيف: “إن إلحاق الطفل بأبيه البيولوجي باعتماد النَّسَب للشبهة الذي يضفي صفة الشرعية على الطفل المولود خلال فترة الخطوبة، يمكن توسيعه ليشمل كل المولودين خارج إطار الزواج وذلك بالاستناد إلى نتائج الحمض النووي”.
ويؤكد الكحل، في مقال نشره على أحد المنابر الإعلامية، أنه “من شأن هذا الإجراء أن يحد، بشكل شبه تام، من ظاهرة أطفال الشوارع والأمهات العازبات وانعكاساتها السلبية على الضحايا من الأمهات والأطفال”.
ويقول معلنا عن مرجعيته “الحداثوية”: “فالخطوات الدستورية التي قطعها المغرب لم تعد تسمح بأن تظل الأنماط الثقافية التقليدية تكبل المشرّع المغربي وتضعه في تناقض مع المادة 5 من اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة”.
ولا ندري بأي منطق يفكر سعيد الكحل وأمثاله؟ فبأي مبرر يتم التركيز على مقاربة علاجية جد معقدة للظاهرة دون إشارة ولو على استحياء لمقاربة أخرى هي المقاربة الوقائية، بما تقتضيه من تحسيس وتوعية وتخليق وحسم لعروق المنكر الجنسي الغريزي، ثم ما تقتضيه من زجر وترتيب للجزاءات الجنائية والمدنية؟
5-سعيد ناشيد ووهم “القرون الوسطى“
وفي سياق حديثه عن موضوع “مراجعة مدونة الأسرة”، لم يتوان سعيد ناشيد في الدعوة إلى مراجعة ما عفا عليه الزمن من قواعد الماضي.
كما صرح لأحد المواقع الدولية بأن “التغيرات المطلوبة والملحة والجذرية باتت هي الثمن، إن صح التعبير”.
وذلك “لكي يدخل المغرب هذا العصر الذي لم يعد يقبل بتقاليد وعادات تعود إلى القرون الوسطى”، يقول ذات المتحدث.
تستغفل ثنائية الماضي/ الحاضر سعيد ناشيد كما تستغفل باقي الحداثويين، تحت وطأة عقل لا جدلي لا يستوعب حداثة الماضي وماضوية الحاضر، ينظر إلى الدين بعين الماضي الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، لا بعين الحاضر الذي يستنجد بماضيه في ظروف دولية وإقليمية معقدة.
6-الديالمي.. مساواة مصطنعة بين المرأة والرجل
وصراحة قال عبد الصمد الديالمي، في ندوة نظمها “اتحاد العمل النسائي”، إنه “يجب الانتهاء من ربط مدونة الأسرة بالشرع الإسلامي”.
ودعا إلى أنه “في مسألة النفقة ينبغي اعتبار قيام المرأة بالأعمال المنزلية نوعا من النفقة أيضا لأن الشرع لا يلزمها بذلك، إذن فالزوج ينفق بماله وهي بساعدها”.
وتابع أنه “لابد من المطالبة بتغيير الفصل الذي ينص على إلحاق الطفل غير القانوني بشكل اختياري للأب البيولوجي، بحيث يصبح الإلحاق أمرا إجباريا بالنظر إلى الدليل العلمي”.
وأشار الديالمي، في ذات الندوة، إلى أنه “بالمغرب لازلنا في إطار قانون أبيسي يحاول قدر المستطاع تنظيم الأسرة النووية، وهذا تناقض كبير لأن الأسرة النووية هي أسرة مساواتية، تحتاج إلى قانون مساواتي بشكل كامل”.
نفس المشكل المنهجي والنظري يتكرر، جسم في المغرب وعقل في الغرب، عين على واقع المرأة المغربية في المجتمع وعين على آمالٍ (المساواة) لا تسمح بها الطبيعة قبل التاريخ. يضع الديالمي نصب عينيه مساواة مصطنعة بين المرأة والرجل، فكيف له أن يبدي رأيا سديدا في قضايا التشريع الأسري؟
7-اضطراب وعي رفيقي بين مرجعيتين.. شرعية وتاريخية
لم يكن محمد عبد الوهاب رفيقي (“أبو حفص”) ليتخلف عن ركب “الحداثويبن”، فأكد أن “حديث الملك محمد السادس في خطاب العرش عن عدم تحريمه ما حلل الله، بمناسبة تطرقه لمدونة الأسرة، يعد إشارة إيجابية، لأنها رسالة مطمئنة لكثير من القوى المحافظة في المغرب بأن كل تعديل قادم لن يمس النصوص القطعية كما ذكر الخطاب، لا سيما ما ورد فيه نص قرآني قطعي”.
وبعد قوله، في مداخلة له بإحدى الندوات، إنه “يمكن تحقيق تقدم على مستوى القوانين المتعلقة بالأسرة مع مراعاة عدم المس بالأحكام القطعية التي وردت فيها آيات قرآنية، وذلك اعتبارا لمجموعة من التوازنات في المجتمع، وكذا نظام الدولة المبني على إمارة المؤمنين”، عاد ليشير إلى أن “عددا من الفصول في مدونة الأسرة اعتمد في تأصيلها على نصوص غير قرآنية، وأحيانا على اجتهادات فقهية”.
وكمثال على ذلك، قال إن “مسألة التعصيب دفعت كثيرا من الناس إلى التحايل على القانون”، مضيفا أنه “ليس فيها أي نص قرآني، وحتى النص الحديثي هو مرتبط بسياق تاريخي وظرف معين، بالتالي معالجة موضوع كالتعصيب لا يمكن أن تشكل أي إشكال ديني أو شرعي، وتنضاف إليها قضايا مرتبطة بالولاية والحضانة وإثبات النسب”.
وأردف أن “الفقه الذي تم اعتماده في مدونة الأسرة الحالية، أنتج في ظرف آخر، والمحافظة عليه تعيق التقدم وتحقيق عدد من المكتسبات”، كما دعا إلى “تجاوز الفقه الإسلامي التقليدي إلى فقه إسلامي حديث متناسق، يتلاءم مع المتغيرات التي عرفها المجتمع والواقع”.
يتراوح رفيقي هنا بين مرجعيتين، الأولى شرعية والثانية تاريخية؛ ولا يخدم أيا منهما مهما ظهر أنه إلى الثانية أقرب. فليس التمييز بين الفقه والشريعة عملا بلا معيار، وليس التاريخ ماضيا غير حاضر؛ من يراعي الشريعة يراعي أصول فقهها وفروعه، ومن يمتلك عقلا تاريخيا يسحبه على الحاضر كما يفهم به الماضي (ولو أن فهم رفيقي للماضي يبقى في منزلة العام ولا يتعداها إلى تفصيل وتدقيق).
8-لطيفة جبابدي ومحاذير “التمركز حول الأنثى“
قبل النقاش المستجد حول مراجعة مدونة الأسرة بسنتين، لطيفة جبابدي، الناشطة حقوقية في الدفاع عن قضايا النساء، إن “موضوع الإرث لا علاقة له بالمعتقدات ولا العبادات، بل يندرج ضمن مجال المعاملات”، مضيفة أن “الإرث مثله مثل عدد من المعاملات التي جرى توقيف العمل بها، كالحدود (حدُّ قطع يد السارق وحدُّ جَلد الزاني…)، لأنّ تطورات العصر تجاوزتها”.
وتابعت جبابدي: “نحن نطالب بمراجعة شاملة لمنظومة المواريث إنصافا للنساء، لأن الأسَر في الماضي كانت ممتدّة، وكان الرجال يصرفون على النساء. أما اليوم، فإن النساء يساهمن في الإنفاق على الأسرة”.
وطالبت، في ندوة عام 2018، بـ”مراجعة شاملة لمدونة الأسرة لتكون قطيعة مع مدونة الأحوال الشخصية، ولتكون متوافقة مع روح دستور.”2011
وأوضحت جبابدي أن المدونة الحالية “بُنيت على توافق بين توجّه محافظ يعارض الحداثة والحريّة، وبين توجه حداثي مناصر للحرية ولتحديث المجتمع، وهذا التوافق نتج عنه تضارب وضبابية”.
وأردفت قائلة إنّ “ثمّة دواع كثيرة توجب مراجعة شاملة لمدونة الأسرة، منها عدم حسمها في مسألة تزويج القاصرات، الذي يعتبر وصمة عار على جبين المغرب”، على حد تعبير ذات المتحدثة.
يلاحظ أن قضية الأسرة تعرف اضطرابا في وعي جبابدي ومن يقاسمها نفس الرأي من الحداثيين، فالمسألة ليست مسألة تزويج القاصرات، ولا هي مسألة أن يكون “للذكر مثل حظ الأنثيين”؛ بل هي مسألة واقع اجتماعي من جهة، وقيم وأفكار دخيلة من جهة أخرى. والمطلوب ليس هو استيراد صورة المرأة في ذهن “الرجل الأبيض”، بل الدفاع عن مطالبها وكرامتها وهي بين ظهرانينا تستغل في شركات “الكابلاج” أو في حقول الفراولة الإسبانية، من قبل الرأسمال الصناعي في الحالة الأولى، والزراعي في الحالة الثانية. وهنا نطرح السؤال: هل نسي “اليسار” قضاياه الحقيقية، سياسية واجتماعية، لينصب خيامه في صحراء أصبحت قاحلة في الغرب قبل أن تعصف رمالها بنا؟
ومما يستوجب الانتباه، في هذه القضية، أن النزوع إلى الفصل بين الحقين، حق الرجل وحق المرأة، يعد في حد ذاته شذوذا عن طبيعة الأشياء وما عليه خلقها الله، أي الزوجية بمعانيها “التراحمية”، ودون “تمركز حول الأنثى”، بتعبير عبد الوهاب المسيري.