خفض الصوت من آداب التحدث

 

دخل رجل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فتكلم عنده فرفع صوته فقال عمر: مه كُف بحسب الرجل من الكلام ما أسمع أخاه أو جليسه.

هكذا يرشدنا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه إلى أدب من آداب المجالسة والمحادثة وهو خفض الصوت وعدم رفعه فوق الحاجة؛ فإن الجهر الزائد فوق الحاجة يخل بأدب المتحدث وقد يدل على قلة الاحترام للمُتحَدَّث إليه.

وقد ذكر الله عز وجل من وصايا لقمان عليه السلام لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان: 19). وقد ورد عن يزيد بن أبي حبيب في تفسيرها: يقول: واخفض من صوتك، فاجعله قصدا إذا تكلمت، وقال ابن زيد: اخفض من صوتك.

وتلمح في الوصية شدة التنفير من رفع الصوت فوق الحاجة حين يشبه ذلك بصوت الحمير فإياك أن تكون متصفا بصفة من صفات الحمير التي تؤذي الناس بشدة رفع صوتها.

وقال ابن كثير-رحمه الله تعالى- عند تفسيرها: (أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ولهذا قال: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير}ِ، وقال مجاهد «أي غاية من رفع صوته أنّه يشبّه بالحمير في علوّه ورفعه، ومع هذا فهو بغيض إلى الله، والتّشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمّه غاية الذّمّ).

وقال المبرّد -رحمه الله-: (إنّ الجهر بالصّوت ليس بمحمود وإنّه داخل في باب الصوت المنكر).

ويتأكد هذا الأدب -خفض الصوت بالقدر الذي يُسمِع- عند مخاطبة الوالدين أومن في مقامهما، ومع مَن يُعظَّم من الأفاضل والأكابر.

ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة محمد بن سيرين رحمه الله عن بكار بن محمد عن عبد الله بن عون قال : إن محمد بن سيرين كان -إذا كان عند أمه – لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضا من خفض كلامه عندها.

والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}(الحجرات:2-3).

وقد روى الإمام البخاري رحمه الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم – بعد نزول هذه الآية – حدثه كأخي السرار -أي كالمناجي المتحدث بسر-، لم يسمعه حتى يستفهمه، أي يخفض صوته ويبالغ حتى يحتاج إلى استفهامه عن بعض كلامه.

وروى البخاري أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ افْتَقَدَ ثَابِتَ بنَ قَيْسٍ، فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْلَمُ لكَ عِلْمَهُ، فأتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا في بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقالَ: ما شَأْنُكَ؟ فَقالَ: شَرٌّ؛ كانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وهو مِن أَهْلِ النَّارِ، فأتَى الرَّجُلُ فأخْبَرَهُ أنَّهُ قالَ كَذَا وكَذَا. [وفي رِوايةٍ:] فَرَجَعَ المَرَّةَ الآخِرَةَ ببِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقالَ: “اذْهَبْ إلَيْهِ، فَقُلْ له: إنَّكَ لَسْتَ مِن أَهْلِ النَّارِ، ولَكِنْ مِن أَهْلِ الجَنَّةِ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *