حري بالعاقل أن يخضع للحق، ويلين للنصح، وأن يقبل التذكير والموعظة، ولا يحتقرها مهما صغرت، بل يتأملها، فكم من موعوظ أفضل من واعظ، ولرب مبلغ أوعى من سامع: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} (الأعلى:9-13).
فحين يقع المؤمن في معصية، ويعلم أنه عاص، فلا بد أن يستغفر ويتوب، ولو أصر عليها فإنه يكرهها لكونها معصية لله -تعالى-، لكن غلبه داعي الهوى، فوقع فيها.
وإنما البلاء العظيم، والخذلان الكبير، والخسران المبين أن يزينها الشيطان في نفسه فيستحلها، فتهوي به في قعر الكفر والنفاق، ولا يَستبعد عبد وقوع ذلك من نفسه؛ فإن الأمن من مكر الله -تعالى-سبب الخذلان والبوار.
فليتأمل كل واحد منا أحوال المصروفين عن الهداية، الراكبين طرق الغواية تجدوهم من أذكى الناس، وربما من أعلمهم بأمور الدنيا.
وتأملوا أحوال اليهود، وهم أهل الكتاب، وكانوا مرجع الناس في العلم، وهم ينتظرون مبعث نبي جديد، فلما بعث ناصبوه العداء، ولم يؤمن منهم إلا قليل، مع علمهم أنه منتصر لا محالة، وأن دينه سيظهر على الدين كله، ولكن من زين لهم سوء عملهم فلا حيلة فيهم.
وتأملوا حال أهل البدع بشتى أنواعها، وما جعلوه فيها من الشعائر البشعة، والتوسلات الشركية، والأفعال التي لا يقبلها الأسوياء من البشر، ويزعمون أنها تقربهم من الله -تعالى- لتعرفوا كيف يوبق تزيين سوء العمل صاحبه.
وأناس حازوا من العلم ما حازوا، سخروه في خدمة البشر لا في الدعوة إلى الله -تعالى-، فطوعوا النصوص لأهوائهم، وحرفوا أحكام الشريعة على مرادهم؛ فمنهم من أحل الحرام البيّن، ومنهم من فتح الذرائع للمحرم القطعي؛ اتباعا لهوى من يهوون؛ معيدين سيرة المشركين القدماء في إباحة الحرام، حين قال الله -تعالى- فيهم: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ} (التوبة:37).
ويتمادى سوء العمل بصاحبه فيراه حسنا إلى أن يناصب أهل العلم والدعوة العداء، ويحاربهم باسم السنة والعقيدة، فيسلم من شره وإفكه وافترائه كل الملل والنحل والطوائف، ولا يسلم إخوانه منه.
ومن هذا الصنف أقوام استباحوا دماء المسلمين، ووقفوا مع الباطنيين والادينيين ضد العلماء والدعاة والمصلحين، وحلقات تحفيظ القرآن الكريم، وهم يدعون أنهم ينصرون الحق والعدل، وليس هذا إلا من تزيين سوء العمل حتى رآه أصحابه حسنا -نعوذ بالله -تعالى- من ذلك.
ومن أبصر سير من ساءت أعمالهم، فزينها الشيطان لهم فرأوها أعمالا حسنة؛ خاف على نفسه الضلال، واجتهد في حراستها عن الانحراف، وأكثر الحوقلة والدعاء بالثبات على الحق، ومجانبة الهوى؛ فإن قلوب العباد بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، وإنه لا حول للعبد ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101).