ماذا قال القرآن الكريم عن السنة (4):المبحث الثاني: دلالة القرآن على أن طاعته ﷺ من لوازم الإيمان نور الدين درواش

 

من أوضح الدلائل على أن السنة النبوية حجة شرعية أن الله عز وجل جعلها في كتابه دليلا على الإيمان وذلك في مواطن عدة من القرآن الكريم: الآية الأولى: قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65].

فهذه آية عظيمة يبين فيها الله تبارك وتعالى أن العبد لا يستحق وصف الإيمان إلا إذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا فقط بل لابد من الرضا بحكمه والتسليم له والانقياد وهذا واضح الدلالة على أن سنته صلى الله عليه وسلم حجة شرعية.

فالحكمة في إرسال الرسل هي تبليغ أوامر الله وتوجيهاته إلى عباده، ليسيروا في حياتهم الخاصة والعامة وفقا لها، وطبقا لمقتضاها، ومادام الرسول ثابت الصدق عن الله، ومضمون العصمة من الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، فلا بد لمن آمن به من أن يطيعه فيما أمر به ونهى عنه، دون أدنى تحفظ ولا أدنى اعتراض. ويؤكد كتاب الله هذا المبدأ بكل قوة وبكل شدة، فيوجه خطابه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقسما بالله العظيم على محتواه وفحواه {‌فَلَا ‌وَرَبِّكَ ‌لَا ‌يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}([1]).

قال ابن كثير:” يُقْسِمُ ‌تَعَالَى ‌بِنَفْسِهِ ‌الْكَرِيمَةِ الْمُقَدَّسَةِ: أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يُحَكم الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ الِانْقِيَادُ لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أَيْ: إِذَا حَكَّمُوكَ يُطِيعُونَكَ فِي بَوَاطِنِهِمْ فَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا حَكَمْتَ بِهِ، وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَيُسَلِّمُونَ لِذَلِكَ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ وَلَا مُدَافِعَةٍ وَلَا مُنَازِعَةٍ”([2]) وقال ابن القيم:” أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه، ولم يكتف منهم أيضا بذلك حتى يسلموا تسليما، وينقادوا انقيادا.” ([3]).

سبب نزول الآية:

عَنْ ‌عُرْوَةَ، عَنْ ‌عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ حَدَّثَهُ: «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: ‌اسْقِ ‌يَا ‌زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: ‌اسْقِ ‌يَا ‌زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللهِ إِنِّي لَأَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}»([4]).

كيف يرد أنصاري حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟؟

ولقائل أن يقول: كيف استساغ رجل من الأنصار ومن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه بما ظاهره إساءة الظن به؟؟

وقد أجاب العلماء عن هذا بأجد احتمالين:

– الأول: أن يكون هذا الرجل من المنافقين وإن انتسب للأنصار.

-الثاني: أن يكون صدر ذلك منه خطأ وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما احتمل منه ذلك ليتألفه لكونه في أول الإسلام.

قال أبو العباس القرطبي: “إن هذا الرَّجل كان ‌من ‌الأنصار ‌نسبًا، ولم يكن منهم نصرة ودينًا، بل كان منافقًا، لما صدر عنه من تهمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجوَّر في الأحكام لأجل قرابته، ولأنه لم يرض بحكمه، ولأن الله تعالى قد أنزل فيه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم} الآية. هذا هو الظاهر من حاله، ويحتمل: أنه لم يكن منافقًا، ولكن أصدرَ ذلك منه بادرةُ نفس، وزلَّةُ شيطان، كما قد اتَّفق لحاطب بن أبي بلتعة، ولحسَّان، ومسطح، وحَمنَة في قضية الإفك، وغيرهم مِمَّن فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيرِ: اسقِ يَا زُبَيرُ ثُمَّ أَرسِل المَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الأَنصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَن كَانَ ابنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجهُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: يَا زُبَيرُ اسقِ ثُمَّ احبِس المَاءَ حَتَّى يَرجِعَ إِلَى بدرت منهم بوادر شيطانية، وأهواء نفسانية، لكن لطف بهم حتى رجعوا عن الزَّلة، وصحَّت لهم التوبة، ولم يؤاخذوا بالحوبة”([5]).

وقال النووي: ” قال العلماء ولو صدر مثل هذا الكلام الذي تكلم به الأنصاري اليوم من إنسان من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى ‌هوى ‌كان ‌كفرا وجرت على قائله أحكام المرتدين فيجب قتله بشرطه قالوا وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس ويدفع بالتي هي أحسن ويصبر على أذى المنافقين ومن في قلبه مرض ويقول يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ويقول لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وقد قال الله تعالى ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين”([6]).

-يتبع بحول الله-

———————————-

([1]) – التيسير في أحاديث التفسير لمحمد المكي الناصري (1/350).

([2]) – تفسير القرآن العظيم (2/349).

([3]) – إعلام الموقعين (2/93).

([4]) – رواه البخاري برقم: (2359 و 2360) ومسلم برقم: (2357).

([5]) – المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/153-154).

([6]) – المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (15/108).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *