نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، ففهِمَه الصحابة حقَّ الفهم، واعتنوا به أشدَّ العناية، فحرصوا علَيه من أجل العمل به، فتدبروا آياته حتَّى أشربوا حبَّ القرآن، فكان همهم الأكبر هو نشر دين الله، ونصر شريعته، فاقتدوا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي كان يوجههم إلى ما يصلحهم في الدنيا والآخرة، وَمِمَّا تعلموه منه أن لا يخوضوا في الآيات المتشابهات، لقوله تعالى: “هُوَ الذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الذِينَ فيِ قُلَوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَاوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ، إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فيِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلآَّ أُولُواْ الاَلْبَابُ” (آل عمران).
لذلك لم تطرح الكثير من المسائل في عهد الصحابة رضوان الله عليهم لعدة أسباب منها:
– أنهم كانوا يفهمون القرآن على سليقتهم العرَبيَِّة وفطرتهم السليمة، دون تكلف وتعقيد.
– كان همهم العمل والجهاد ونشر الدين، ولم يقعدوا للمجادلات والمناظرات.
– لم يختلطوا كثيرا بالثقافات والفلسفات الأخرى.
لهذه الأسباب وغيرها لم تطرح العديد من القضايا في عصرهم، خاصة إذا علمنا الحذر الشديد الذي كانوا يتحلون به عند خوضهم في آيات الله سبحانه وتعالى على سبيل الخصوص، وأبرز مثال على ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: “أي أرض تُقلُّني، وأيُّ سماء تظلُّني إذا قلت في كتاب الله برأيي”.
ومع ذلك فقد وقع منهم بعض الكلام في مثل هذه القضايا، بحكم احتكاكهم بأهل الكتاب في المدينة، إِلاَّ أَنَّهُم لم يسترسلوا فيها لِما ورد فيها من التحذير الشديد.
وعندما اختلط أصحاب الثقافات السابقة بالمسلمين، انتشرت بين أوساطهم أفكار لم تكن معهودة عند السلف، ومن أبرز هذه الأفكار فكرة الكلام في أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، وحقيقة الإيمان، وحقيقة الإسلام، وحقيقة الكفر، وحقيقة النفاق، وهل هنالك منزلة بين الإيمان والكفر، وما مصير مرتكب الكبيرة؟ وحقيقة الشفاعة، وهل الله يُرى أم لا يرى؟ وهل الجنة مخلوقة أم لا؟ وهل النار تفنى أم لا؟ وما مصير أصحاب النار؟ وما حقيقة القرآن، هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ ونحو ذلك من المسائل التي كان يَحذر منها الصحابة كثيرا، خاصة في جانب الاعتقاد وكانت القاعدة المعمول بها عندهم وعند من تبعهم بإحسان في الباب: الإمرار والإقرار، لِما ينشأ عن مخالفة هذه الأخيرة من الجدال المُؤَدِّي إلى الفرقة والشقاق، بل إلى التفسيق والتكفير.
فقد كانت هناك بوادر لمثل هذه المسائل في عهد الصحابة، إلا أَنَّها خمدت في مهدها لتصدي الصحابة لها بحزم، كقصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع صبيغ.
وعندما انتشرت هذه الفلسفات الواردة على العالم الإسلامي اضطر علماء المسلمين أن يتخذوا تجاهها مواقف تبين الحكم الشرعي اتجاه هذه الفلسفات والأفكار المخالفة لنصوص الوحيين وكيفية التعامل معها، فإن كثيرا من المباحث العقدية ما كان لأئمة أهل السنة الخوض فيها لولا أن المبتدعة اضطروهم إلى ذلك، ولذا قيل: “العلم نقطة كثرها الجهال” كما أثر عن علي رضي الله عنه، وصدق من قال: “لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف”.