خير ما أنفقت الأعمار في تحصيله، وخير ما بذلت الأنفاس في الإعتناء به وحفظه واتباعه: كتاب الله جل وعلا، فهو الميدان الذي يتسابق فيه المتسابقون، ويتنافس فيه المتنافسون، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، من تمسك به نجا ومن تركه ضل وغوى، كما قال الله جل وعلا: ” وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى”.
القرآن الكريم كتاب الله وكلامه، حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعلمه وتعاهده والتغني به ففي الحديث الصحيح من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: “تعلموا كتاب الله، وتعاهدوه، وتغنوا به، فوالذي نفسي بيده لهو اشد تفلتا من المخاض في العقل”.
وفي هذا الحديث من العلم:
1ـ الأمر بتعلم القرآن.
2ـ تأكيد ندب المواظبة على تلاوته خشية التفلت.
3ـ الحث على التغني به.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الحافظ لكتاب الله الماهر فيه، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: “الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران”.
فهذا الحديث يبين فضل حفاظ القرآن الماهرين بتلاوته لأنهم مع الملائكة، وفيه تنبيه لحامل القرآن أن يتشبه في أحواله وأعماله بهؤلاء الملائكة، إذ المدح لا يلحقه بمجرد الحفظ حتى يكون كالكرام البررة في كرمهم وبرهم.
وبيَّن عليه الصلاة والسلام منازل الحفاظ لكتاب الله تعالى في الآخرة ففي الحديث الصحيح من حديث عبد بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها”.
ولأجل ذلك كان سلف الأمة أحرص الناس على الاعتناء بكتاب الله جل وعلا حفظا وتعلما وعملا.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن”.
فهكذا كان حال سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، أما حال الكثير منا فيندى له الجبين، نسأل الله المسامحة، ونسأله العفو والعافية، فالكثير منا إلا من رحم الله جل وعلا اتخذ القرآن مهجورا كما قال تبارك وتعالى: ” وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً”.
قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد: “هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والاصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وءامن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه…
والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به.
وكل هذا داخل في قوله: ” وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً”، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض”.
قال تعالى: “يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً”.
وفي السير عن نافع رحمه الله قال: “لما غسل أبو جعفر القارئ أحد الأئمة العشرة في حروف القراءات، نظروا ما بين نحره إلى فؤاده كورقة المصحف، فما شك من حضره أنه نور القرآن”.