في غمرة الشعارات الزائفة، والمظاهر الجوفاء، والمفاهيم المغلوطة، والحقائق المزيفة، التي تنتهجها الصحف العلمانية، تطلع علينا لتنشر في عددها الصادر في ماي 2008 مقالا بعنوان: الفكر الوهابي من المشرق إلى المغرب، حيث أثار المقال جملة من الشبه والتلبيسات والمغالطات حول الدعوة السلفية. ويبدو من خلال المقال أن الكاتبة تحاول إبراز السلفية على أنها شيء دخيل يتنافى مع ثقافة المغرب، وبالتالي يجب التخلص منه بكل ممكن.
وبناء على هذا فإن المقال يندرج في إطار التشويش والتشغيب الذي يمارسه العلمانيون وأذنابهم لصد الناس عن دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وأحاول في هذه السطور تلخيص ما تضمنه المقال المشار إليه من ملاحظات مع التعليق عليها، حتى يكون القارئ الكريم على بينة من أمره.
الملاحظة الأولى: تعمُّد الخلط بين المنهج السلفي في فهم نصوص الوحيين الواجب اتباعه بالأدلة الشرعية وبين الاجتهادات السلفية المبنية على أصول أهل السنة والجماعة والتي تبقى عرضة للخطأ والصواب، لكنها لا تخرج عن كونها علما شرعيا.
والمقصود من هذا الخلط هو التعتيم على المنهج السلفي حتى لا يظهر للناس أنه منهج يروم ربط المسلمين بكلام الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه الصلاة والسلام بضابط فهم السلف الصالح، وبهذا الاعتبار يكون المنهج السلفي من حيث كونه قرآنا وسنة مرادفا للإسلام، فما الإسلام إلا قرآن وسنة، أما اجتهادات علماء السلف والعلماء السلفيين، فهي كما أسلفنا بين مقبول ومردود، وذلك حسب موافقتها لنتائج إعمال أصول المنهج السلفي.
كما أنهم يخلطون بينهما عمدا حتى يتمكنوا من القدح في نصوص الوحيين متخفين وراء الصبغة الإنسانية للاجتهادات السلفية، ملبسين على القراء بعبارات من قبيل “الفكر السلفي” وذلك حتى يجْرُون على كلام الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يجرون على الفكر البشري من الطعن والنقد واللمز، وهذا ما نلاحظه دائما في الصحف العلمانية، والله المستعان.
الملاحظة الثانية: التلقيب بالوهابية ويقصد بهذا اللقب نسبة الدعوة السلفية إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، باعتباره مجددا لهذه الدعوة. وأول من أشاع هذا اللقب الأتراك العثمانيون الذين تبنوا القبورية، ثم تلقفه بعدهم أهل الضلال والانحراف، من صوفية، ورافضة، وعلمانية، وغيرهم.
وغرضهم من إشاعة هذا المصطلح تنفير الناس من هذه الدعوة، وصدهم عنها، وبلبلة أفكارهم، وإطلاق المزيد من الضباب، لعرقلة مسيرة هذه الدعوة، وحجب الرؤية عن حقيقة أهدافها، وإبرازها على أنها رمز للعصبية والتطرف، وإيهاما للسامع أنها مذهب خاص يخالف المذاهب الإسلامية الأربعة الكبرى. وعلى كل حال سواء أريد بهذه النسبة الإضلال أو التلبيس أو التشويه، فإن هذا لا يغض من قيمة هذه الدعوة، لأنها تمثل دعوة الصحابة والتابعين، ولأنها تمثل دين الإسلام الصحيح النقي الذي كتب الله له الظهور والبقاء إلى قيام الساعة. والجدير بالذكر أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي ينسبون إليه هذه الدعوة إنما كان داعيا إلى الكتاب والسنة، حيث يقول واصفا دعوته: “ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم، مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم..”.اهـ كلامه.
ومما يؤكد صدق هذا الكلام، ما نراه في كتب الشيخ رحمه الله من التزامه بالنصوص الشرعية في مسائل التوحيد وغيرها، والأمثلة على ذلك كثيرة في كتبه. ورحم الله أبا الهدى الصعيدي من علماء الأزهر حيث قال: “إذا كانت الوهابية كما سمعنا وطالعنا فإننا أيضا وهابيون”. وأهيب بالقارئ الكريم أن يطالع كتب الشيخ رحمه الله بكل تجرد وإنصاف وله أن يحكم بعد ذلك.
الملاحظة الثالثة: ربط السلفية بمكان معين وهو ما أشارت إليه الكاتبة عند حديثها عن الخصائص الجغرافية للدعوة السلفية حيث ربطت هذه الدعوة بالمشرق الإسلامي وبالسعودية تحديدا. وهذا أيضا يدخل ضمن سلسلة الأساليب الماكرة التي انتهجها العلمانيون لإذكاء نار الصراع بين المشرق والمغرب، وهو الأسلوب نفسه الذي اعتمده العدو المحتل وأذنابه لتفريق كلمة المسلمين، وهذا كله يدخل ضمن السياسة اليهودية (فرق تسد).
وكل من له أدنى إنصاف يدرك أن المشرق هو مهد الحضارة الإسلامية، ومركز انطلاق الدعوة إلى الله، ومحطة العلم والعلماء، ولا زال العلماء المغاربة كأبي الوليد الباجي، وأبي بكر بن العربي المالكي، والقاضي عياض، وغيرهم من العلماء المغاربة، يرتحلون إلى المشرق لتحصيل العلوم. ومن المعلوم عند كل أحد أن الإمام مالكا صاحب المذهب المشهور الذي ينتسب إليه المغاربة، وكذلك الإمام ورش صاحب القراءة المعروفة، والإمام خليل صاحب المختصر، كل هؤلاء الأئمة من المشرق. وفي هذا الصدد يقول ابن بسام صاحب كتاب “الذخيرة” وهو يتحدث عن محاسن أهل الأندلس: “إلا أن أهل هذا الأفق، أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة؛ حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنَّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتاباً محكماً”. يقصد أن أهل المغرب كانوا متابعين لأهل المشرق آخذين عنهم.
لكن العلمانيين أبوا إلا افتعال الصراع بين المشرق والمغرب، وإشاعة روح العصبية بين المسلمين، وإقصاء كل ما يأتي من المشرق، وإن كان على حساب الإسلام والسنة. ترويجا لسياسة المحتل، وتنفيذا لخططه، ومما يثير العجب والاستغراب، ما يستعمله العلمانيون من المعايير المزدوجة، فهم حين ينادون بإقصاء الدعوة السلفية، على أنها شيء دخيل يتنافى مع ثقافة المغرب وحضارته، تجدهم في المقابل ينفتحون على الثقافة الغربية انفتاحا مهووسا، ويدعون لتبنيها بصفة دائبة ومستمرة، عبر مجلاتهم وإذاعاتهم وقنواتهم الفضائية، باعتبار أن هذه الثقافة رمز للرقي والتقدم على حد زعمهم، وبدعوى التسامح والانفتاح على الآخر، فيقال لهم: إن كنتم جادين فعلا في دعوى الحفاظ على هوية المغرب الثقافية والحضارية؛ فلماذا إذن تتبنون هذه الثقافة وتدعون إليها!!؟ اللهم هذا من التناقض الذي عهدناه من العلمانيين، فهم يرون القذى في أعين الناس، ولا يرون الجذع في أعينهم.
والمقصود: أن الدعوة السلفية غير مرتبطة بمكان؛ بل هي دعوة منفتحة على جميع بقاع الأرض، في جميع العصور، وقد دخلت المغرب بدخول الفاتحين، الذين نشروا الإسلام في هذه البلاد، كما تبناها المرابطون الذين تولوا محاربة الشرك والبدع والرفض، كما قرر ذلك عبد الحفيظ الفاسي في كتابه: “الآيات البينات”، وبناء على هذا فإن السلفية هي الأصل في هذه البلاد، لا كما يظنه الكثير من ارتباطها بالسلطان العلوي المولى سليمان، وإن كان هذا السلطان قد أحيا آثارها، وجدد معالمها، بعدما عفت ودرست، كما أن هذه الدعوة ليست مرتبطة بعالِم ما، أو مذهب ما؛ بل كل من اتخذ كتاب الله وسنة رسوله وآثار السلف منهجا وسلوكا فهو سلفي، سواء كان مشرقيا أو مغربيا، أو هنديا.. وسواء كان حنبليا، أو مالكيا، أو شافعيا، أو حنفيا، فالعبرة بالعقيدة والمنهج والسلوك، لا بالأزمان والأماكن والأشخاص والمذاهب.
الملاحظة الرابعة: اعتبار الدعوة السلفية رمزا للجمود، وهذا ما أشارت إليه الكاتبة عند حديثها عن الخصائص الاجتماعية للدعوة السلفية، ونقلتْ في هذا السياق مقولة لمحمد عبده يصف فيها السلفيين بضيق الأفق، والتقيد بحرفية النص. أقول: هذا أيضا من الجناية على هذه الدعوة التي من أكبر أهدافها فتح باب الاجتهاد، والتحرر من قيود التقليد، والانفتاح على روح العصر وفق الضوابط الشرعية، وتحرير العقل الإسلامي من معتقلاته الموروثة من الجاهلية، وانتشاله من أعمال الهوان الوثني والجمود، بالإضافة إلى كشف كل زيغ وانحراف، ونفض الغبار عن المفاهيم الصحيحة لتعاليم الإسلام. ومن الأدلة على ذلك أن أساطين الفقهاء المجتهدين، ومشاهير أرباب الفتوى من الأئمة الأعلام، من منتسبي هذه الدعوة، الذين أخذوا على عاتقهم تحرير العقول من براثن الجمود، وأوحال العصبية المذهبية، والتصوف المقيت، والعلمانية الهدامة، فعادوا بالإسلام إلى منابعه الصافية، وموارده النقية.
إن اتهام الدعوة السلفية بالجمود هو اتهام للصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة الأعلام، في كل عصر ومصر، لأنهم هم السلف الذين تنسب إليهم الدعوة. فكيف يستساغ إذن وصفها وحَمَلتها بالجمود والتقليد؟
وأختم بتساؤل وهو: لماذا يثير العلمانيون هذه الزوبعة حول الدعوة السلفية، في الجرائد والمجلات، وقنوات الإعلام، مع أن هناك مذاهب هدامة لا تمُس ولا تُنتقد، كالصوفية، والشيوعية، واللبرالية، والعلمانية، والرافضة وغيرها كثير؟
والجواب واضح وهو: أننا نعيش زمان حرب معلنة على الإسلام وأهله. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.