ذكر الموت.. حياة القلوب:
إن ذكر الموت واحدٌ من أنفع أدوية القلوب وأسباب حياتها وصلاحها؛ ولهذا المعنى العظيم كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أمته بالإكثار من ذكر الموت، “أكثروا ذكر هاذم اللذات”.
وقد وعى السلف رضي الله عنهم وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم فجعلوا الموت أمام أعينهم، فقصرت آمالهم، وصلحت أعمالهم وقلوبهم. فهذا الربيع بن خثيم رضي الله عنه وهو من هو صلاحًا وعلمًا وزهدًا يقول: “لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة واحدة لفسد قلبي”.
إن الحقيقة التي لا مراء فيها أن الموت حتم لازم، لا تمنع منه حصانة القلاع، ولا ارتفاع الأسوار، ولا يحول دونه الحجَّاب، ولا ترده الأبواب، “أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ” النساء. ولا يحتاج الموت إلى مقدمات ولا إلى استئذان، فإن الأمر لحظة، فقد يدخل النَّفَسُ ولا يخرج، وقد يخرج ولا يدخل: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ” آل عمران، “فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ” الأعراف.
وإن كل يوم يمر من حياتنا فإنه يقربنا من آجالنا ولقاء ربنا، فمن كانت الأيام والليالي مطاياه سارت به، وإن لم يسر!
نسير إلى الآجال في كل لحظة….
وأيامنا تطوى وهـنَّ مراحلُ *** لم أرَ مثل الموتِ حقًّا كأنَّه…
إذا ما تخطتـه الأماني باطلُ *** وما أقبح التفريط في زمن الصبا.
فكيف والشَّيْبُ للرأس شاعلُ *** ترحلْ من الدنيا بـزادٍ من التقى
فعمرك أيَّام وهنَّ قلائلُ.
لقد دخلت فاطمة رضي الله عنها على أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقالت: واكرْباه.. فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: “يا بنية! إنه قد حضر بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحدًا..”.
بعد قليل يمسك اللسان، ويزول العرفان، وتنشر الأكفان، ويُفارَقُ الإخوان، ونُنقل إلى الأموات، وتصف علينا اللبنات، ألا فلنذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات ومنغص الشهوات، وقاطع الأمنيات، وميتم البنين والبنات، حريٌ بالعبد أن يكثر من ذكر الموت، فإن ذلك يدفعه إلى الصالحات وترك المنكرات، حذرًا مما هو مقبل عليه من أهوال الموت والسكرات. إن كثرة ذكر الموت ينبه العبد من غفلته، وهذا هو عين المطلوب:
تنبه قبل الموت إن كنت تعقلُ فعما قليل للمقابر تُنقلُ
وتمسي رهينًا في القبورِ وتنثني *** لدى جدث تحت الثرى تتجندل
فريدًا وحيدًا في الترابِ وإنما *** قرينُ الفتى في القبر ما كان يعملُ
وما يفعل الجسم الوسيم إذا ثوى *** وصار ضجيع القبر يعلوه جَنْدلُ
وبطنٍ بدا فيه الردى ثم لو ترى *** دقيق الثرى في مقـلةٍ يتهرولُ
أعيناي جودا بالدموع عليكما *** فحزني على نفسي أحق وأجملُ
أيا مدعي حُبي هلمَّ بنا إذا *** بكى الناس نبكي للفراق ونَهْمَلُ
دعي اللهو نفسي واذكري حفرة البلى وكيف بنا دود المقابر يفعلُ
إلى الله أشكو لا إلى الناس حالتي إذا صِرْتُ في قبري وحيدًا أُمَلْمَلُ
إننا حين ندعو أنفسنا والناس من حولنا إلى الإكثار من ذكر الموت فليس ذلك بسبب اليأس من الحياة أو التشاؤم، لكنه التذكير بالكأس الذي لابد لكل منَّا أن يشربه وهو عنه غافل لاهٍ. فإن الموت إذا نزل بساحة العبد نسي ما كان فيه من اللذة والنعيم: “أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ” الشعراء، قرأ بعض السلف هذه الآيات فبكى وقال: إذا جاء الموت لم يغن عن العبد ما كان فيه من اللذة والنعيم.
ولهذا وجدنا السلف يتواصون بالإكثار من ذكر الموت واستحضاره، مع أنهم فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، وسادوا الدنيا بطاعة الله، وجاءهم الموت فكانوا أفرح بقدومه من الأم بقدوم ولدها الغائب. فوجدنا منهم من يقول وهو على فراش الموت: “واطرَبَاه!! غدًا نلقى الأحبة محمدًا وحزبه”.
وآخر يقول: “مرحبًا بالموت؟ زائر مُغبّ (قليل الزيارة) جاء على فاقة”.
وآخر يقول: “اللهم إني إليك لمشتاق”. ولا عجب فإن العبد إذا كان على فراش الموت بُشر إما بجنة وإما بنار، فإن العبد يموت على ما عاش عليه، والخواتيم مواريث الأعمال.
نسأل الله حُسنَ الخاتمة والفوز بالجنة والنجاة من النار.