من فقه البيوع النوع الخامس من البيوع المحرمة البيوع المحرمة لأجل الضرر أو الغبن [هل لأرباح التجار حد معين؟] ياسين رخصي

سبق في الحلقة الماضية ذكر اختلاف أهل العلم في حكم البيع الذي وقع فيه الغبن الفاحش دون علم المغبون؛ هل يكون لازما لا يجوز فسخه، أو أنه يثبت الخيار للمغبون بسبب غبنه؟
وذكرنا أن أقرب الأقوال في ذلك: ثبوت الخيار للمغبون بين الفسخ أو الإمضاء إذا غبن غبنا يخرج عن العادة والعرف فيما يربحه الناس، كما هو قول أحمد وأحد قولي مالك رحمهما الله.
قال شيخ الإسلام: “أما إذا كان المشتري مسترسلا -وهو الجاهل بقيمة المبيع- لم يجز للبائع أن يغبنه غبنا يخرج عن العادة، بل عليه أن يبيعه بالقيمة المعتادة، أو قريب منها، فإن غبنه غبنا فاحشا فللمشتري الخيار في فسخ البيع وإمضائه”1 انتهى كلامه رحمه الله.
فهل يلزم من هذا أن تكون أرباح التجار محددة بنسبة معينة -كالثلث ونحوه- بحيث لا يجوز تجاوزها، أم أنها غير محدودة؟
والجواب:
ليس في نصوص الشريعة تحديد لنسبة معينة للربح يحرم تجاوزها بحيث تصبح قاعدة عامة لجميع السلع في جميع الأزمنة والأمكنة، وذلك لعدة حكم منها:
– اختلاف الأموال في سرعة دورتها وبطئها، فما كانت دورته سريعة قلَّ ربحه في العادة، وما كان بطيئا كثر ربحه.
– اختلاف البيع الحال عن البيع المؤجل، إذا الأصل قلة الربح في الأول وكثرته في الثاني.
– اختلاف المبيع في ذاته بين كونه ضروريا أو حاجيا فيقل ربحه رفقا بالضعفة وذوي الحاجة، وبين ما كان كماليا فيزيد ربحه في العادة لتيَسُّرِ الاستغناء عنه.
ولهذا لم يرد في السنة المطهرة -كما سبق- تحديد لنسبة من الربح لا يجوز تجاوزها، بل ورد ما يدل على جواز وصول الربح في بعض الأحوال إلى الضعف بل إلى أضعاف كثيرة2.
فقد روى البخاري في صحيحه عن عروة بن الجعد رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار فجاء بدينار وشاة. فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه”3.
وفي رواية لأحمد: “..فقال اللهم بارك له في صفقة يمينه”، قال: فلقد رأيتني أقف بكناسة4 الكوفة، فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي”.
لكن ومع القول بأن أرباح التجارة ليس لها حد معين، ينبغي للمسلم تاجرا أو غيره أن يكون سهلا سمحا في بيعه وشرائه، وألاَّ ينتهز فرصة غفلة صاحبه فيغبنه في البيع أو الشراء، بل يراعي حقوق الأخوة الإسلامية.

فتوى اللجنة الدائمة بشأن تحديد نسبة الربح (الفتوى رقم: 4552):
السؤال: هل توجد نسبة محدودة من الربح في التجارة، أم أن الربح غير محدود؟
الجواب: يجوز لمن اشترى بضاعة للتجارة أو للاقتناء أن يبيعها بأكثر من ثمنها حالا أو مؤجلا، ولا نعلم حدا يُنتهى إليه في الربح، لكن التخفيف والتيسير هو الذي ينبغي، لما ورد فيه من الترغيب، إلا إذا كانت السلعة معروفة في البلد بثمن معلوم فلا ينبغي للمسلم أن يبيعها على جاهل بأكثر من ذلك إلا إذا أعلمه بالحقيقة، لأن بيعها بأكثر نوع من الغبن، والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يغشه ولا يخونه، بل ينصح له، أينما كان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة” الحديث، رواه مسلم، وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله اليماني قال: “بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم”.

قرار المجمع الفقهي بشأن تحديد أرباح التجار
ناقش المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1-6 جمادى الأولى 1409 الموافق 1-15 ديسمبر 1988 موضوع تحديد أرباح التجار فقرر ما يلي:
أولا: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها؛ عملا بمطلق قول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ” سورة النساء 29.
ثانيا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة، وظروف التاجر والسلع، ومراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق، والقناعة، والسماحة، والتيسير.
ثالثا: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغفال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.
رابعا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللا واضحا في السوق والأسعار ناشئا من عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادية الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش. وبالله التوفيق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مجموع الفتاوى (29/359).
2- انظر (ما لا يسع التاجر جهله) لعبد الله المصلح وصلاح الصاوي (ص65-66).
3- صحيح البخاري كتاب المناقب، باب 28 رقم:3642.
4- الكُناسة: قال الشيخ عبد الرحمن البنا في الفتح الرباني 2/2269، الكُناسة: بضم الكاف، اسم موضع بالكوفة، والكناسة أيضا القمامة كذا في القاموس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *