وانتهت جولة قاسية من عتوهم الكبير على غزة، وأفاق أهلها يلملمون جراحهم، وارتاح العرب أخيرا من ضغطة العار التي كانت تغطي وجوههم ولو إلى حين…
الجميل في هذه الصورة إن كان فيها جميل، أن الشعوب المسلمة لم تطق ما أطاقه الملؤ من السكوت على هذه المجازر التي ترسم لنا صورة متصلة للوحشية اليهودية والصليبية، وتربط لنا ماضيهم بحاضرهم، وتؤكد لنا حقائق آيات كتاب الله عز وجل، فتُبين لنا أنهم لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وأنهم متى يثقفونا يكونون لنا أعداء ويلقون إلينا أيديهم وألسنتهم بالسوء…
وقد أدت هذه الشعوب شيئا مما تستطيعه مما يفرضه عليها فقه الممكن، وأنفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فقد أنفق مما آتاه الله، إذ أن منهم من أنفق من لسانه ومن أنفق من قلمه ومن أنفق من ماله ومن أنفق من وقته، ومنهم من تولّى وعينه مليئة من الدمع حزنا ألا يجد ما ينفقه أو يدفع به عن إخوانه، فرأينا صورة الأمة الواحدة التي تبكي وتنتحب لجرحها الأليم، والتي تتداعى كلها بالسهر والحمى…
ويأتي في آخر الركب قوم لا هم من القضية ولا هي منهم، معلنين تضامنهم الراقص مع أهل غزة، ووقوفهم الماجن في وجه العدوان، فينظمون السهرات، ويعزفون المعازف، ويضربون الطبول، ويأتون بالمغنيات المائلات المميلات، يغنين أعذب الألحان، ويبدين كل مفاتنهن، كي ينصرن بأصواتهن الناعمة وأجسادهن الفاتنة وسواعدهن اللينة قضيتنا وأمتنا، وهكذا يجمعون تبرعاتهم لنصرة غزة من قهقهات الحاضرين وتمايل المغنيات، فلا بارك الله فيهم ولا فيما يجمعون…
لقد تداخل الهم والعجب في نفسي معا، وأنا أسمع في إحدى القنوات الإخبارية، واحدة من هؤلاء المغنيات، وهي تتحدث عن أداء الواجب ونصرة القضية، والحمد لله أن السهرة مرت على ما يرام، وغنينا ما تيسر لنا من الأغاني، وهذا أقل ما يمكننا أن نقوم به لأهل غزة…
إن هؤلاء يسخرون منا ومن آلامنا، وينسون أنهم جزء من المعركة، وسلاح من الأسلحة الفتاكة التي فتكت بمبدائنا وأخلاقياتنا كفتك تلك القنابل ببيوتنا ومدننا، ولولا ما وصلت إليه الأمة من الضعف الديني والأخلاقي، لما كانت لأعدائها هذه الصولة، ولما استطاعوا أن يتداعوا عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها مع ما نحن عليه من العدد الكثير، لكننا غثاء السيل وقشه، فما نغني عن أنفسنا ولا عن إخواننا شيئا، وإنما يتقاذفنا السيل يمنة ويسرة، ويهبط بنا وينزل، ويرطم بعضنا ببعض، إلى أن نغير ما بأنفسنا فيغير الله ما بنا…
فلهؤلاء المجان نقول: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن غزة غنية عن أموال المراقص والملاهي والحانات، فدماؤها أطهر من أموالكم النجسة، وأبطالها لم يكونوا يوما ينتظرون دعم الراقصات لنضالهم الشريف، فاتركوها عنكم، ولا ترقعوا بآلامها سمعتكم الممزقة.
وصدق من قال: شر البلية ما يضحك.