كان عود الشباب لا يزال غضا طريا عندما أهداني أحد الصحاب كتابا بعنوان “نكون أو لا نكون” لصاحبه فرج فوده، رجل أشهر قلمه وإن شئت فقل سيفه لقطع أوصال ما يمت للدين بصلة، ونظرا لأنني كنت أخشى أن يأخذني الأسلوب الجميل، وسياسة الكلمة الراقية المبنى، الفضفاضة المعنى، فقد عمدت إلى الفهرس حتى أبدأ بقراءة ما هو بالنسبة إلي ثابت مسكوك من حيث قناعاتي الدينية البديهية.
فكان أول ما بدأت به موضوع المرأة و الحجاب، فوجدت الرجل لا يرى في الحجاب فضيلة، ولا يقر له بمزية، بل الأكثر من ذلك، فهو يرى أنه لو خير بين أن تكون المرأة خاضعة للشريعة أو الأعراف والمواثيق الدولية، فهو لن يتوانى في أن يقرر بشكل حاسم أن تكون هذه الصاحبة خاضعة لكل ما هو وافد علينا من ثغور الجليد، عريا كان أو سفورا، اختلاطا كان أو فجورا.
ورغم هذا الاختيار المنحاز تجده في توطئته للكتاب وهو يعرج على ذكر أسباب نزوله بهذا الوليد الفكري إلى ساحة معركته الموهومة، ذلك أنه قام بدعوة أطفال جيرانه ليحضروا مناسبة ميلاد أحد أبنائه، لكن آباءهم منعوهم من حضور هذه المناسبة لاعتبارات على رأسها ما روّجه عليه من كفر وردة الذين أفرد لهم في هذا الكتاب فصلا تحت عنوان “إنهم يركبون الزلمكة”، حيث تهكم فيه من رجال الأزهر الذين صاروا يركبون سيارة المرسيدس، ويقيمون في المغاني الفخمة، ويسوغون للاستبداد بمرتكزات شرعية.
والرجل رغم حقده على الإسلام وأحكامه، والذي لا يحتاج معه كبير عناء لتقف على معالم بغضه للدين ورجاله، وجدته في هذه التوطئة يكشف عن مراده من كل تلك السطور، فقد كان مراده نيل رضا الله وإخراج الحق من تحت عباءة الرجعية، ولفافة الجهالة، وتجريده من أسمال الماضوية.
ونحن إذ نمتثل أمر نبينا في وجوب توقير موتانا والرجل قد أفضى إلى ما قدم بين يدي مولاه، لا نريد أن نسهب في ذكر تفاصيل تركته الموبوءة، بل إن الذي دفعنا إلى استخراج شيء من المخزون الماضوي هو تشابه بعض القلوب مع تلك القلوب، وتماثل بعض الأقلام مع تلك الأقلام، مثقفون فرقتهم عوامل التاريخ والجغرافيا لكن جمعهم الغرض الواحد والادعاء الواحد: الإصلاح ومرضاة الرب، فإن هم عاشوا فالنضال النضال، وإن هم هلكوا فالشهادة الشهادة، وذلك ولا شك مبلغهم من العلم، وقد قرر فيهم ربنا جل وعلا كلمة الغيب المشهودة، بعد أن ادّعوا الصلاح حصرا، و الإصلاح قسرا: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ”.
فكم من خسارة رآها الأفاكون بعين الربح؟
وكم من كبوة عدها المدلسون نخوة؟
وكم من رسوب ألبس ثوب النجاح؟
ولا غرابة في ذلك ولا عجب فإنها والله أيام خداعة، صار فيها الأمين خائنا، والخائن أمينا، وصار الذين جحدوا الحق وصدوا الناس عنه، ونالوا من نقاوته وبياضه سوط تعزير في أيدي العدو الغريب، وحبل بلاء ودائرة سوء على الراغبين في اعتناق نوره، فخالفوا أمر الله الذي هو محض زجره “وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ”.
وكما أراد صاحب كتاب “نكون أو لا نكون” كما يزعم وجه الله ومرضاته، وإظهار الحق على الباطل، كذلك أراد بعض المتعالمين وهو يخوض بالجرح في بعض من أعلام الرعيل الأول جيل القرآن والبرهان، إنه سبط رويبضة، لسان حاله يقول: “إنه وإن كان الأخير زمانه، إلا أنه أتى بما لم تستطعه الأوائل!
ففي الطبعة الثانية من كتابه “أكثر أبو هريرة”، تلك الدراسة التحليلية النقدية كما هو مكتوب تحت عنوان الكتاب مباشرة، وبعدما استرسل في خندقة الردود الكاسرة بين إفراط وتفريط، قال بالحرف: “وبين هؤلاء وأولئك يقف الباحث الدارس -يعني سيادته- الذي لا يستجيب لإملاءات هؤلاء ولا لاتهامات أولئك، ليبدأ الحوار العلمي الهادئ! بالاحترام الواجب! والأدب اللائق! ودون خوف إلا من الله، ولا طمع إلا في مرضاته” انتهى كلامه.
نعم إن من تجليات الاحترام الواجب، والأدب اللائق، اتهام صحابي جليل تواترت النصوص والآثار في ذكر فضله، وعلو كعبه في الحفظ و الرواية، بالوضع و الكذب، وأنه رضي الله عنه حينما كان يحب أن يتخلص من أخطائه ينسبها للآخرين وخصوصا الموتى منهم!
نعم إن من نتائج الحوار العلمي الهادئ أن يلوح لهذا الرويبضة بعد حين من الدهر، حقيقة مفادها أن أبا هريرة لم يكن صحابيا إنما هو تابعي قدم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولعل إقراره بهذا يدفعه مكرها إلى أن ينسخ شيئا من تلك القذارة الفكرية، والادعاءات القميئة التي أسلف ذكرها، كاتهامه لعدالة هذا الصحابي الجليل، وقدحه في قوة حفظه وسعة ذاكرته وكثرة روايته، بدعوى أن ملازمته لنبينا محمد عليه الصلاة و السلام لم تكن ملازمة تلقي وتعليم، إنما كان الدافع من هذه الملازمة هو مَلء البطن وإسكات أنين المعدة..، ويمضي الكاتب المجدد بصفاقة من يحطب ليلا في سوق أدلته، وحشد جيوش نعرته، للنيل من هذا الصحابي الجليل الذي نتعبد الله بحبه وحب من رباه على الكفاف و العفاف، وعلى الصدق والأمانة محمد خير ولد آدم ولا فخر.
وسيدنا أبو هريرة لا تحتاج سيرته مني إلى دفع ومدافعة، ولكن هذه البواعث البغيضة الكامنة وراء هذا الزحف الرافضي، والتهجم الصفوي على وطننا العزيز، لا يجوز أن نتجاهله لأن بوادر إيقاد العداوة الدينية مع سلفنا الصالح هي جزء خطير من الحملات والعوادي التي -في غفلة من أهل الحق وفي ظل انتشار البؤر الظلامية للطرقية والقبورية- أصبحت تتحول إلى سهام سامة موجهة بغدر وإحكام إلى نحور الناقلين الأشراف، غرضها من ذلك إصابة المنقول الشريف، وهذه الحرب -إن صح التعبير- هي حلقة جديدة من سلسلة قديمة مترهلة الترابط، وهي جولة أخيرة للكر على منهج “ما أنا عليه وأصحابي”.
ولكن لا خوف، ولا يأس، فالمنهج محفوظ، وأبو هريرة سنبلة من ذلك الزرع الذي قال في حقه تعالى: “وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ”، جعلني الله وإياكم من الزراع الذين قال في حقهم رب العزة و الجلال: “وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ”.