أصبحت مظاهر العري التي عمّت معظم شوارع مدننا تثير قلق كل مغربي غيور، ليقينه أن الفاحشة إذا عمَّت في أي مجتمع ولم ينكرها الصالحون أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده، وقد تفطن بعض أذكياء الغرب لمغبة التمكين للفاحشة ووسائل الإغراء ونشر العري في المجتمع وانعكاساته السلبية بقوله: “والواقع أن مستقبل الأجيال الناشئة محفوف بالمكاره، ربما يتحول أطفال اليوم إلى وحوش عندما تحيط بهم وسائل الإغراء المتجددة بالليل والنهار! إن تشويها كبيرا سوف يلحق البشر حيث كانوا..؟” (الثورة الجنسية، جورج بالوشي هورفت)، وخطر الطاقة الجنسية “قد يكون في نهاية المطاف أكبر من خطر الطاقة الذرية..” (جيمس رستون)، فمسألة تفشي الفاحشة وذيوعها بات يؤرق كل ذي عقل، لا بالنظر إلى الجانب الشرعي فحسب، بل لانسحاب ذلك على المجال الصحي والاجتماعي والاقتصادي كذلك.
إلا أن المفارقة الغريبة هو ما تقوم به معظم المنابر العلمانية داخل بلدنا وغيره من البلدان الإسلامية الأخرى، بإصرارها على تطبيع العري والفاحشة في المجتمع بكل الوسائل المتاحة، القانونية وغير القانونية، ومحاربة كل مظاهر الحشمة والوقار والعفة، ووسم أصحابها بما هم منه براء، متجاهلين كل ما يسببه نشر مثل هذه الأفكار والقيم والتطبيع معها من انحرافات سلوكية وآفات اجتماعية وأضرار صحية.
وكان حق هذه المنابر -إن كانت فعلا تدعي أنها تخدم الشأن العام ومصلحة البلد وتحاول معالجة مختلف الظواهر الاجتماعية السائدة- أن تعالج الظواهر الشاذة المنتشرة داخل مجتمعنا انطلاقا من مرجعيتنا كبلد مسلم دينه الإسلام، لا أن تتبنى الطرح العلماني وتؤمن بالفكر الغربي إلى درجة اليقين ثم تدعي بعد ذلك أنها تغار على الهوية والدين، وتخشى على البلد من كل فكر دخيل.
لقد أعدت جريدة الصباح مؤخرا ملفا بعنوان: “التطرف في اللباس بين البرقع والسترينغ”، وأجرت من خلاله مقارنة بين نوعين من اللباس، النقاب أو البرقع كما أسمته هي والسترينغ، واعتبرت كلا منهما تطرفا في اللباس، وحالة شاذة على مجتمعنا المغربي.
وهي مفارقة غريبة عجيبة تدل دلالة واضحة أن المعين الذي تمتَح منه مثل هذه المنابر هو الفكر الغربي الإلحادي، فكر رواد الثورة الفرنسية على الدين والقيم، فكر “كانت” و”جون لوك” و”جون جاك روسو” و”فولتير” و”سبينوزا” وغيرهم، فكر التحليل المادي الماركسي لكل الظواهر السائدة في المجتمع، فكر يتنافى ومرجعيتنا الإسلامية، فكر جرَّ على أهله كما شهد بذلك عقلاؤه الدمار والخراب.
إن حكم النقاب أو تغطية كافة جسد المرأة حكمه معلوم من الناحية الشرعية، وأحكام لباس المرأة لا يخلو منها كتاب فقه أو حديث، ويكفي الباحث تحريك أي من محركات البحث الإلكترونية لتفتح أمامه الآلاف من صفحات البحث دون أن يكلف نفسه عناء التنقل إلى أي مكتبة، ورغم سهولة المعلومة وقربها من الباحث أبت الجريدة المذكورة إلا تغييب العامل الديني الكامن وراء ارتداء الكثير من النسوة مثل هذا اللباس، لا في المغرب وحده بل في غيره من الدول الإسلامية الأخرى، وفي كثير من الدول الغربية أيضا.
لقد كان “نيكولا ساركوزي” في تصريحه الأخير بشأن النقاب أشد رحمة من كثير من كتاب الجرائد العلمانية في المغرب، فـ”ساركوزي” حاول أن يبعد الدين عن ساحة المعركة، واعتبر اللباس “الذي ترتديه النساء في أفغانستان مثلا ليس رمزا دينيا وإنما رمز استعباد للمرأة”، أما منابرنا الإعلامية فاعتبرته تطرفا في اللباس، ورمزا دينيا يحيل على فئة دينية متشددة، تعتبر الجسد مقدسا لا يجب كشفه إلا أمام الزوج.
إن المرأة التي اختارت ارتداء النقاب وتغطية كافة جسدها، والتشبه في لباسها بأمهات المومنين كعائشة وحفصة وأم كلثوم وغيرهن من العفيفات الطاهرات، لا تعتبر الجسد مقدسا بل تعتبره عورة لا يجوز كشفها إلا أمام من أحل الله، وذلك تمسكا بما أنزل من الوحي المقدس: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} النور، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} الأحزاب، أي: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يرخين على رؤوسهن ووجوههن من أرديتهن وملاحفهن، لستر وجوههن وصدورهن ورؤوسهن، ذلك أقرب أن يميَّزن بالستر والصيانة، فلا يُتعَرَّض لهن بمكروه أو أذى.
وقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لأميمة بنت رقيقة رضي الله عنها وغيرها من نساء المؤمنين في البيعة: “أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى” حسن، رواه أحمد، انظر جلباب المرأة المسلمة.
فهذا هو السبب الحقيقي الذي يدفع كثيرا من النساء إلى المسارعة إلى ارتداء النقاب، يدفهن نداء الرحمن جل في علاه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}، وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}، فهذه الأوامر الإلهية والتوجيهات النبوية هي من تدفع المرأة إلى ارتداء النقاب لا كما يحاول أن يصوره من أشبعت قلوبهم بشبهات العلمانيين واللادينيين الملحدين.
إنه لا يحق أبدا لجريدة الصباح أن تسوي بين النقاب أو السترينغ في الحكم فتعدهما تطرفا في اللباس، لأن التطرف هو كل ابتعاد عن المركز تجاه الطرف، بغض النظر عن اتجاه تلك الحركة، والحاكم على أي فعل أنه تطرف لا بد أن يكون وسطيًّا، وجريدة الصباح من خلال ملف “النقاب والسترينغ” قد حكمت على نفسها بالتطرف، لأن الغالب على إنتاج جريدتها ومجلتها أيضا هو نشر صور الغربيات والشرقيات العاريات، المرتديات للسترينغ وغيره، وما يخرج من مؤخرة الصباح يوميا دليل صريح على ما نقول، هذا دون الكلام طبعا عن محاربة الملتزمين بدينهم، والمستمسكات بحجابهن، وتصويرهن على أنهن خيم متنقة، ووصفهن بـ”النينجا” نصرة مبادئ وقيم العلمانية المتطرفة.
لقد بات جليا لكل ذي عينين أن الصفوف قد تميزت بين دعاة الحق ودعاة الباطل، بين دعاة الطهارة والعفة ودعاة الرذيلة والفجور، إلا أن ما يحز في النفس هو الغياب غير المسوغ للجهات المنوط بها الذود عن حياض الدين والقيم الإسلامية في المغرب، غياب خطير لمن هو مكلف شرعا وقانونا بحماية الأمن الروحي والأخلاقي للمغاربة المسلمين، حتى أضحى لباس النقاب الذي عرفته المغربيات منذ دخول الإسلام المغرب إلى يوم الناس هذا غلوا وتطرفا.
ألا يستوجب الاستهزاء بشعيرة النقاب ووسمها بالتطرف تدخل المجلس العلمي الأعلى؟
إننا نسأل السادة العلماء عن حكم من يصف لباس المرأة الأصيل: النقاب والحايك بـ”النينجا”، ومن يصف المرأة المنقبة ويشبهها بـ”الخيمة المتنقلة”؟
نسألهم عن تفسير السادة المالكية لقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
لماذا لا نسمع صوتا ولا نرى أثرا لمجالسنا العلمية التي يطمح السيد الوزير أن يجعلها بعدد العمالات فيما يخص العري الفاحش والدعوة إلى إشاعته وتطبيعه في المجتمع؟
إنها أسئلة تدور في خلد كل مغربي مسلم يفزعه الانحراف الكبير الذي طرأ على منظومة قيم وأخلاق أهل بلده.
فهل من مجيب؟