“واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا، لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا.” المؤرخ أحمد الناصري
الحرية التي يتغنى بها الجميع ويعشقها الجميع يختلف الناس في أمرها، وتتباين النظريات في شأنها اعتبارا لتباين المرجعيات.
فهل لا يكون الفرد حرا طليقًا متمتعًا بلذائذ هذه الحرية إلا إذا أرخى له المجتمع العنان في نزواته وأعماله؟ حتى ولو كان في أفكاره وآرائه ما يهدم بعض قواعد مجتمعه ويحطم أركان دولته؟ حتى ولو أدى به الأمر إلى أن يكون فوضويا في مجتمع تعمه الفوضى وتسوسه وتغشاه؟
أم أن الحرية الحقة هي التي تصان معها كرامة الفرد وكرامة أسرته ومجتمعه وقومه ودولته بصرف النظر عن مدى اتساعها وترامي أطرافها؟ علما أن الحرية المطلقة لا وجود لها، إذ أنها تشبه الفوضى إن لم تكن هي الفوضى عينها.
اتخذ الإسلام الحرية دعامة لكل ما سنه من أحكام وخطه من نظم، وحرص الحرص كله على تطبيق تلكم الحرية في مختلف أمور الحياة، وسن العقاب الصارم الحازم لكل من يحاول الاعتداء على الأنفس والذوات والأموال والأعراض.
وهكذا نشاهد أن الإسلام قد قرر وحقق المبادئ الخاصة بحقوق الفرد وحريته في تصرفه على أكمل صورة وأوسع نطاق، سواء فيما يتعلق بنفسه ومجتمعه، أو أملاكه ومكاسبه، لكنه مع ذلك لم يترك الحبل على الغارب، ولم يهمل شأن المصالح العامة تلقاء المصالح الفردية.
فتراه للمصلحة العامة الاجتماعية ولمنفعة جماعة المسلمين يحد من بعض الحرية الفردية، ويضحي باليسير لفائدة الهام والمهم.
قال الغزالي في الإحياء: “إنه لا يجوز أن يستعمل الإنسان حقه في غير الغاية الاجتماعية التي منح من أجلها الحق”.
وقال أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات: “إن من يثبت حقه الشرعي في أي أمر فإنه يمنع من استعماله إذا لم يقصد من ذلك إلا الإضرار بالغير”. (انظر مجلة مجمع الفقه الاسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي).
أما الحرية بمفهومها الذي يسوق له العلمانيون اليوم وتعمل الدول الغربية بمنظماتها وحكوماتها واستخباراتها على فرضه علينا قسرا ولو بالحديد والنار فهو مفهوم قام بنقده علماء الإسلام حتى قبل أن يصدر إلينا، فبينوا مخالفته لمرجعيتنا كمسلمين وممن تعرض له بالنقد العلامة المؤرخ أحمد الناصري رحمه الله تعالى المزداد 1250هـ/1835م، بقوله: “واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا، لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا.
أما إسقاطها لحقوق الله فإن الله تعالى أوجب على تارك الصلاة والصوم وعلى شارب الخمر وعلى الزاني طائعا حدودا معلومة، والحرية تقتضي إسقاط ذلك كما لا يخفى.
وأما إسقاطها لحقوق الوالدين فلأنهم -خذلهم الله- يقولون إن الولد الحدث إذا وصل إلى حد البلوغ والبنت البكر إذا بلغت سن العشرين مثلا يفعلان بأنفسهما ما شاءا ولا كلام للوالدين فضلا عن الأقارب فضلا عن الحاكم، ونحن نعلم أن الأب يسخطه ما يرى من ولده أو بنته من الأمور التي تهتك المروءة وتزري بالعرض، سيما إذا كان من ذوي البيوتات، فارتكاب ذلك على عينه مع منعه من الكلام فيه موجب للعقوق ومسقط لحقه من البرور.
وأما إسقاطها لحقوق الإنسانية فإن الله تعالى لما خلق الإنسان كرمه وشرفه بالعقل الذي يعقله عن الوقوع في الرذائل، ويبعثه على الاتصاف بالفضائل، وبذلك تميز عما عداه من الحيوان، وضابط الحرية عندهم لا يوجب مراعاة هذه الأمور بل يبيح للإنسان أن يتعاطى ما ينفر عنه الطبع وتأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنا وغير ذلك إن شاء، لأنه مالك أمر نفسه فلا يلزم أن يتقيد بقيد ولا فرق بينه وبين البهيمة المرسلة إلا في شيء واحد هو إعطاء الحق لإنسان آخر مثله فلا يجوز له أن يظلمه، وما عدا ذلك فلا سبيل لأحد على إلزامه إياه وهذا، واضح البطلان لأن الله تعالى حكيم وما ميز الإنسان بالعقل إلا ليحمله هذه التكاليف الشرعية من معرفة خالقه وبارئه والخضوع له، لتكون له بها المنزلة عند الله في العقبى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الأحزاب.
واعلم أن الحرية الشرعية هي التي ذكرها الله في كتابه وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وحررها الفقهاء رضي الله عنهم في باب الحجر من كتبهم فراجع ذلك وتفهمه ترشد وبالله التوفيق. اهـ (الاستقصا 8/130).