تعيش المدرسة المغربية اليوم واقعا مرا وتندب حظها في هذا الزمن العاثر أهله، تسير في متاهات السبل لا تعرف ما تقدم وما تؤخر وقد أصبحت كالآلة تنسخ الشواهد ولا تنتج كفاءات؛ وكالسجن تحبس التلاميذ عن إثارة الفتن في الأزقة والشوارع ولو إلى حين.
المدرسة المغربية لا تعاني التهميش بقدر ما تلقى من اهتمام متزايد، منذ تفعيل الميثاق سنة 2000 تصرف لها الهمم وترصد لها الميزانيات المهمة والتدابير المفعلة لنشاطها والدراسات والندوات والمناظرات وهلم جرا؛ لكن بدون جدوى وبلا هدف، بدليل النتائج الكارثية، والمحصلة التي لا تسر، والمعاناة التي يعرفها القطاع -الذي كان في نظر البعض في وقت من الأوقات قطاعا مستهلكا لا منتجا-، مع التخبط في وضع المناهج والبرامج المفتقدة لصفاء النية وصدق الإرادة في الإصلاح؛ حيث يتكفل بذلك ناس بعيدون عن الميدان وليسوا من أهل الاختصاص؛ فضلا عن الفلسفة العلمانية المؤسسة لنظرية إصلاح التعليم، والمنفصلة عن الأخلاق الإسلامية لصالح الأخلاق الكونية الوضعية، والمتمسكة بسراب الحداثة إرضاء لقوم آخرين، ومن أجل تقديم الإحصاءات الخادعة والحساب المزور على حساب الكفاءة والمصداقية لأجل مزيد من الدعم، وتقديم صورة عن التنمية التي لا تصمد أمام قوة المؤشرات وصلابتها والتي تجعل المغرب في مؤخرة الترتيب عند كل نشرة للجهات المهتمة بالموضوع.
إذا أضيف لهذا الحسابات الداخلية، تكتمل الصورة عن واقع مزر ومصير مجهول للمدرسة المغربية وعلى رأس ذلك الطبقية المقيتة التي يحافظ عليها ليبقى العلية وأبناؤهم بعيدا عن مخالطة العوام، ويحظى فلذات أكبادهم بتعليم مناسب يخول لهم المناصب الإدارية والتسييرية والتي تستورد البرامج من الخارج لتطبيقها على شعب يجهلون حقيقته، وهو الذي لا يتلقى التعليم اللائق ولا تتاح له الظروف المناسبة ولا الإمكانات التي لا توجد إلا حبرا على ورق، إضافة إلى الخطط والمبادرات المُهجنة، فيغرقون الشعب في برامج اجتماعية وترفيهية وثقافية وتربوية غير هادفة غايتها فصل المجتمع عن دينه؛ لأن المدرسة هي البوابة الكبرى لتثبيت القيم عن طريق برامج للأسف يضعها من تربى في مدارس لا تعير للقيم الإسلامية وزنا.
بعد كل محاولات الإصلاح ها هي المدرسة تحتضر وقريبا إن لم يتدارك الأمر ستشيع جنازتها غير مؤسوف عليها؛ فأين المفر يومئذ إذن أإلى المدرسة الخصوصية؟؟ أم إلى الشارع وعالم الإجرام الذي يستقبل جحافل الفاشلين بالأحضان، لأن بعض التدابير التي تنتهجها الدولة في تسيير المدرسة تكرس الكارثة التي يعانيها القطاع؛ كالخريطة المدرسية التي تقدم النسبة على المردودية؛ والنجاح على التكرار وإن بمعدلات متدنية، ولو كانت النية صادقة لما تبنت مثل هذا القرار الذي يتعرض للنقد باستمرار من طرف المهتمين بالشأن التربوي لأنه يكرس التدني في المردودية والطبقية والتمكين للمدرسة الخصوصية التي لا يقدر عليها عامة الشعب.
نفس الغرض والنية المبيتة كان من نتائجه سياسة التعريب، الذي لا يروم تحقيق الهوية والتنمية باللغة الوطنية، وإنما إيقاع العامة في تناقض واضطراب يؤدي إلى الفشل وعدم الاستمرارية؛ وذلك حين يتلقى المتعلم المادة بالعربية إلى أن يصل الجامعة ليفاجئ بتحول التعليم على التفرنس فيتوقف المشوار، أو تصعب المواكبة، أو يدرس المتعلم بالعربية ويتخرج بالعربية ليصدم بإدارة مفرنسة، تتحكم فيها علمانية حاقدة أخرت البلد سنين عددا عن التنمية، وإلا فجل الدول التي ترقت أو تسير في طريق الرقي إنما بلغتها الأم التي جعلتها لغة العلم والإدارة والتقنية… ومنها دول لها لغات لا تحظى بما تحظى به العربية كلغة عالمية؟
لقد كان من آخر إبداعات الأوصياء على التعليم الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وقد قضى تفعيله بالمدرسة المغربية ثمان سنوات، وعند المحصلة كانت الكارثة، إذ جاء تقرير المجلس الأعلى للتعليم صادما ومخيبا للآمال. فاضطر أصحاب القرار إلى وضع خطة استعجالية مدتها أربع سنوات، يقولون أنها جاءت لتسريع وتيرة إصلاح التعليم الذي بدأ مع تفعيل مقتضيات الميثاق الطموحة، ولكنها في الحقيقة إنقاذه من الفشل الذريع الذي مُني به، لأن القرارات الفوقية لا تستطيع أن تصلح أو تعالج لبعدها عن النظرة الفاحصة والمستوعبة لحاجات القطاع الذي ينبغي أن يخدم العقيدة والهوية واللغة التي تحافظ على كيان الشعب وتحفظه من الاستلاب والذوبان الذي يعيشه تحت بارقة سيوف الفقر والجهل والتخلف، وإلا كيف يسير الناس إلى الأمام ونسير نحن إلى الخلف رغم علمنة كل مناحي الحياة، ومن زمان، وعلى رأس ذلك المدرسة التي يريدونها خاضعة للمواثيق الكونية على حساب المواثيق الوطنية المستلهمة من الشريعة الإسلامية التي من أجلها سعى جيل التحرير إلى التضحية بالمال والدم وكل غال ونفيس.
المدرسة المغربية تسير نحو المجهول لأنه ما من عام يأتي عليها إلا وهو أسوأ مما قبله بدليل الارتجال والتخبط في معالجة المستجدات المفاجئة والتي لا تعرف التدبير الممنهج.
لقد بلغ السيل الزبى، هذا هو انطباع كثير من الملاحظين والمهتمين من تربويين وإداريين ورجال تعليم وتلاميذ وأولياء أمور وفعاليات مجتمعية مختلفة متحل بالوطنية متشبع بالهوية، إن الحاجة إلى الحزم في إنقاذ وإصلاح التعليم ملحة أكثر من أي وقت مضى، وهذا هو ما عبرت عنه الإرادة الملكية بجعل التعليم ثاني الأولويات الوطنية بعد الوحدة الترابية.
فهل سيفلح المخطط الاستعجالي فيما عجز عنه المخطط المتأني؟
ربما فتكون معجزة.