جماع الأمر وناصيته في فهم كلام الله ورسوله الاستجابة لهما، فبهما تحصل حياة الفهم والنظر والتمييز والنور.
قال تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ” (الأنفال:24..)
فـ”حياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل والغي والرشاد والهوى والضلال فيختار الحق علي ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التميز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال، وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق وقوة البغض والكراهة للباطل فشعوره وتمييزه وحبه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة”.
وقال ربنا سبحانه وتعالى: “أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ” (الأنعام:122).
فإعطاء النور سبب في جلاء المراد، وتجلي حقائق الأشياء من فحوى الكلام ونحوه وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أعطني نورا”
نورا يُعرف به ما كان خافيا أو غامضا لم يتبين وجهه.
قال النووي رحمه الله: “الصلاة نور”: تهدي إلى الصواب كما أن النور يستضاء به.
وقال: “الصبر ضياء”: المراد أن الصبر محمود ولا يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب. اهـ
فالحق أبلج واضح كالصبح تسكن إليه النفس، ولا يطمئن إليه إلا الصادق وفي الحديث”الصدق طمأنينة”
والباطل لجلج يتردد ولا يستقر، فيكون القلق والاضطراب الموجب للشك وفي الحديث “الكذب ريبة”
فكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في القلب العامر بتقوى الله يورث بصيرة ونظرا وفهما.
“ففي قلب كل مؤمن واعظ، والوعظ هو: الأمر والنهي، والترغيب والترهيب”
والمؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره وكلما ازداد قربا من الله تعالى قوي نظره وفهمه، وانكشف له من معاني الألفاظ ما انسد وأغلق فهمه على كثير من الناس.
فصارت التقوى مقدمة الدليل والهادية إلى إصابة الحق بخلاف من تنكب عنها بسبب معصية أو هوى.
قال الشاطبي رحمه الله: “إذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى وذلك مخالفة الشرع”. اهـ
وكذا أثر المعصية سواء بسواء.
قال ابن القيم رحمه الله: “كان شيخنا كثير الدعاء بذلك وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويكثر الاستعانة بذلك، اقتداء بمعاذ بن جبل رضى الله عنه حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته وقد رآه يبكي فقال: والله ما أبكى على دنيا كنت أصيبها منك ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال معاذ بن جبل رضى الله عنه: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، أطلب العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء وعند عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري وذكر الرابع فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعجز فعليك بمعلم إبراهيم صلوات الله عليه”. اهـ
فالالتجاء والخضوع والانكسار لله سبحانه من تمام الامتثال ومحبته، فيُلهم الله تعالى عبده التَّقي النَّقي الراجح أو الصواب.
أرأيتم قلبا مخموما لا إثم فيه، يستوي مع قلب خرب؟!
لذا كان “القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي”.
ومن هذا الباب ما يذكر أهل العلم في باب الاستحسان، وأن أصله استفتاء القلب وحقيقته ترجيح أقوى الدليلين، مثاله امرأة المفقود، والمسألة محل بحث سواء في حقيقته أو في التمثيل له والمقصود بيان أثر تقوى القلب، وأن الناس متفاوتون في ذلك.
قال ابن القيم: دلالة النصوص نوعان حقيقة وإضافية، فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه الدلالة لا تختلف، والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك.
فالامتثال ومحبة الله ورسوله تساعد في الذكاء وجودة القريحة وثقوب الذهن لإدراك المقاصد.
لكن دوس الكتب دوسا، وأكلها وشربها درسا، ومعرفتها ظهرا وبطنا سبيل لا يستغني عنه الفقيه.