الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [فِي أَيَّامِ مِنًى]، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، [تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ]، [وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ]، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، [وَالنَّبِي صلى الله عليه وسلم مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ] فَانْتَهَرَنِي (وفي رواية: فانتهرهما)، وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، [فَكَشَفَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَنْ وَجْهِهِ]، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «دَعْهُمَا [يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ] ، (وفي رواية: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا). [فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا] متفق عليه. ( الروايات والزيادات كلها في الصحيحين).
تأملات في الدُّرة:
في هذه الدُّرة النبوية تحكي لنا أمُّنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها في يوم من أيام منى- وهي يوم عيد الأضحى ويومان بعده- فوجد عندها جاريتين، تغنيان وتضربان بالدف، ولم تكونا ممن يحترف الغناء، إنما كانتا تنشدان أبياتا مما تقاول به الأوس والخزرج يوم بُعَاث -وهو موضع على ميلين من المدينة وقعت فيه معركة بين القبيلتين قبيل الإسلام-، فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، وحول وجهه، وغطاه بثوبه، معرضا عن غَنَائِهِنَّ، فبينما هم كذلك إذ دخل أبو بكر رضي الله عنه، فانتهرهن، وزجرهن قائلا: “مزمارة الشيطان…؟!”، يعني بذلك “الغناء أو الدف؛ لأن المزمارة أو المزمار مشتق من الزمير، وهو الصوت الذي له الصفير، ويطلق على الصوت الحسن، وعلى الغناء، وسميت به الآلة المعروفة التي يزمر بها، وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تلهى فقد تشغل القلب عن الذكر” (فتح الباري2/442 )، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم وجهه، وأقبل عليه قائلا: “دعهما يا أبا بكر فإنهما أيام عيد”، لأن أيام التشريق كلها أيام عيد، وهي الأيام الثلاثة بعد عيد الأضحى.
وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة النبوية من الفوائد:
– مشروعية التوسعة على العيال في الأعياد بما يحصل لهم ترويح عن النفس.
– مشروعية إظهار السرور في الأعياد.
– مشروعية تأديب الأب لابنته بحضرة زوجها.
– مشروعية الضرب بالدف الذي ليس فيه جلاجل للجواري في الأعياد، وأما غيره من الآلات فلا يجوز باتفاق المذاهب الأربعة.
– إنكار أبي بكر رضي الله عنه دليل على أنه استقر في نفسه تحريم سماع الغناء، وأنه مزمار الشيطان.
– رد النبي صلى الله عليه وسلم عليه بقوله: “دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد”، إقرار له على الأصل، وإعلام له بالرخصة استثناء، فيجب الوقوف عند حد الرخصة من غير توسع، ولا يجوز أن يجعل الاستثناء أصلا، والأصل استثناء.
قال الحافظ ابن حجر: “عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك، على الوجه الذي أقره، إذ لا يُقَرُّ على باطل، والأصل التنـزه عن اللعب واللهو، فيقتصر على ما ورد فيه النص، وقتا، وكيفية، تقليلا لمخالفة الأصل” (الفتح 2/443).
– إنكار أبي بكر رضي الله عنه وترخيص النبي صلى الله عليه استثناء بمناسبة العيد، دليل على أن سماع هذا النوع من الغناء المباح لم يكن ديدنا للصحابة رضي الله عنهم، كما هو حال بعض الناس، وبعض القنوات الفضائية. ولهذا قال ابن عبد البر: “ولا تجوز شهادة من يكثر سماع الغناء، ومن يغشى المغنيين، ويغشونه” (الكافي 2/898). وقال الحطاب نقلا عن الشيخ خليل: “قال في التوضيح: الغناء إن كان بغير آلة فهو مكروه، ولا يقدح في الشهادة بالمرة الواحدة بل لا بد من تكرره، وكذا نص عليه ابن عبد الحكم؛ لأنه حينئذ يكون قادحا في المروءة… المازري: وأما الغناء بآلة فإن كانت ذات أوتار كالعود والطنبور فممنوع وكذلك المزمار”(مواهب الجليل 8/165).
– جواز سماع صوت الجارية وإن لم تكن مملوكة له. قال الحافظ: “ولا يخفى أن محل الجواز ما إذا أُمِنَتِ الفِتْنَة بذلك” (الفتح 2/443).
– إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن غناء الجاريتين يدل على أن أهل العلم والفضل يتنـزهون عن سماع الغناء المباح، كما يتنزهون عن اللهو واللغو وإن لم يكن فيه إثم.
– فتوى التلميذ بحضرة شيخه بما يعرف من طريقته ومذهبه.
– تصحيح الشيخ لتلميذه فيما أخطأ فيه من الفتوى.
– ذكاء عائشة رضي الله عنها، وحسن أدبها، حيث تركت الجاريتين تغنيان بعد أن أذن لهما النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم اكتفت بالإشارة لهما بالخروج حين غفل، تأدبا مع رخصة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، ومراعاة لخاطر أبيها من جهة أخرى.
• فائدة مهمة:
قول عائشة رضي الله عنها: “وليستا بمغنيتين”، يُشْعر بأن احتراف الغناء ولو بدون آلة محرمة، أو حضور غناء من يحترفه، مخل بالمروءة والعدالة، ولولا ذلك ما احتاجت عائشة رضي الله عنها لهذا التحفظ والاحتراز.
* قال القرطبي رحمه الله: “قولها: (ليستا بمغنيتين)، أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه.
قال: وأما ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال وأن ذلك يثمر سني الأحوال وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرفة. والله المستعان اهـ. (الفتح 2/442).
ولهذا رد العلماء من أصحاب المذاهب الأربعة شهادة المغني والمغنية:
قال العلامة برهان الدين المارغيناني الحنفي: “ولا تقبل شهادة مخنث، ولا نائحة، ولا مغنية، ولا مدمن الشرب على اللهو، ولا من يلعب بالطيور، ولا من يغني للناس” (البداية ص 155).
وقال ابن القاسم المالكي : “…فأما النائحة والمغنية والمغني، فما سمعت فيهم شيئا، إلا أني أرى أن لا تجوز شهادتهم إذا كانوا معروفين بذلك” (المدونة 4/19).
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: “في الرجل يغني، فيتخذ الغناء صناعته، يُؤتى عليه، ويَأتي له، ويكون منسوبا إليه، مشهورا به معروفا، والمرأة، لا تجوز شهادة واحد منهما (يعني الرجل والمرأة)؛ وذلك أنه من اللهو المكروه الذي يشبه الباطل، وأن من صنع هذا كان منسوبا إلى السفه، وسقاطة المروءة، ومن رضي بهذا لنفسه كان مستخفا، وإن لم يكن محرما بَيِّنَ التحريم…”(الأم 7/518) .
وقال ابن قدامة الحنبلي: “..وعلى كل حال من اتخذ الغناء صناعة يؤتى له ويأتي له، أو اتخذ غلاما أو جارية مغنيين يجمع عليهما الناس؛ فلا شهادة له، لأن هذا عند من لم يحرمه سفه، ودناءة، وسقوط مروءة…” (المغني 14/161).