تعتـَبرُ الولايات المتحدة الأمريكية منطقة القرن الإفريقي خط الدفاع الثاني عن منطقة الخليج الإستراتيجية، وقد أضيف إلى هذه الأهمية بُعد آخر، وهو ترشيح بعض بلدان تلك المنطقة وعلى رأسها السودان والصومال لأن تكون مصادر ثروة طائلة (النفط في السودان، واليورانيوم في الصومال).
وأمريكا تعلن دائماً أنه يهمها الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي، لأهميتها الإستراتيجية البالغة، ولكن يبدو أن الاستقرار بمفهوم الأمريكان هو ألا يقر لأهل الأرض قرار، فلا بد من تسليح شعوب ضد شعوب، وطوائف ضد طوائف، لقد كان لوزير الخارجية الأمريكي السابق “كريستوفر” رحلة إفريقية، الهدف منها حسب ما أعلن: تكثيف الوجود الأمريكي في القارة الإفريقية، وبخاصة في القرن الإفريقي، وترجمت هذه الرغبة عمليّاً بتقديم أمريكا دعماً عسكريّاً لثلاث من الدول المحيطة بالسودان، يتراوح ما بين 25 إلى 50 مليون دولار، وهذه الدول هي: (إريتريا وإثيوبيا وأوغندا).
حقيقة الدور الأمريكي:
كانت أمريكا تدرك أهمية منطقه شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، فكان إعلان “دالس” وزير الخارجية الأمريكي في أواخر الخمسينات: “إن اعتبارات الأمن في منطقة البحر الأحمر هي التي حكمت علينا أن نضم إرتيريا إلى الحبشة”.
ومع نهاية الحرب الباردة بدأ السودان يدخل على الأجندة الأمريكية.
ولكن ما حقيقة الدوافع الأمريكية في النظر إلى السودان؟
يقع السودان في موقع قريب من منطقة القرن الإفريقي، وتمثل هذه المنطقة أهمية حيوية للتحكم في الملاحة في البحر الأحمر تبعاً لما يلي:
هذا البحر تمرّ به نسبة كبيرة من تجارة العالم خاصة ناقلات النفط القادمة من الخليج إلى أوربا وأمريكا، والمعروف أن تدفق البترول والتحكم فيه وفي أسعاره كان دائماً ورقة ضغط أمريكية على أوربا واليابان والصين تُلوِّح بها في وجه هؤلاء الكبار الذين يريدون الخروج عن السياسة الأمريكية وأهدافها في العالم، فضلاً عن أن أمريكا تعد منطقة القرن الإفريقي العمق الاستراتيجي لقواتها الموجودة في المنطقة.
كما يمثل البحر الأحمر عمقاً حيوياً للكيان الصهيوني، حيث يطل السودان عليه، وأمن الكيان الصهيوني يعد من أولويات السياسة الأمريكية وأهدافها الإستراتيجية.
إن السودان مدخل مهم إلى منطقة البحيرات العظمى، حيث قامت أمريكا بمحاولة ترتيب الأوضاع هناك، فقامت بدعم قبيلة التوتسي التي استولت على الحكم في زائير (الكونغو)، وفي تقرير للبنتاجون نشر مؤخراً اعتبر أن منطقة البحيرات العظمى هي مصدر استراتيجي مهم لا يمكن الاستغناء أو التنازل عنه، باعتبار أن هذه المنطقة تمثل حلقة الوصل الرئيسة بين الدول الإفريقية ودول الشرق الأوسط، إضافة إلى أن من يتحكم في هذه المنطقة سيحدد -إلى حد كبير- الآثار الاستراتيجية والسياسية لمنطقتي الشرق الأوسط وإفريقيا، وأكد التقرير أن النهج الاستقلالي الذي تسعى دول المنطقة إلى تبنيه ممثلاً في السعي إلى إنشاء السوق الإفريقية المشتركة سوف يؤثر على المصالح الأمريكية، وأن السودان والحكم الإسلامي فيه سوف يحدث بلبلة في المنطقة، وأن الهدف الأمريكي هو إحداث تغيير سياسي سريع في السودان وعلمنة الحكم ليرتبط مع بقية دول البحيرات العظمى في إطار تحالف قوي يضم أوغندة وإثيوبيا وإرتيريا والكونغو والسودان الجديد، ومن ثم التحكم في منطقة حوض النيل لإخضاع الدول الواقعة عليه للسياسات الأمريكية.
إيقاف المد الإسلامي وانتشاره في إفريقيا
فقد صرحت أولبرايت في 5-1-1998م: “لا ينبغي أن تترك هذه المنطقة (تقصد شرق إفريقيا) دون توجيه استراتيجي أمريكي من شأنه أن يؤدي إلى نتائج في مقدمتها قيام عدة دول إسلامية في الشرق الإفريقي”.
وفي حديث لوزير الخارجية السوداني قال: “إن السياسة الأمريكية الآن تحاول أن تصنع عدواً لتخيف به الآخرين، وآلياتها الإعلامية والسياسية تصب في هذا الاتجاه، ومن ثم فهي تدعو الأطراف الأخرى -في ضوء ذلك- للاعتماد عليها، وأمريكا تصور السودان الآن على أنه العدو”.
في ضوء هذه الأهداف السابقة بدأت أمريكا في رسم السياسات التي تمكنها من الوصول إلى هذه الأهداف.
والمتتبع للسياسة الأمريكية في أي بقعة أو بؤرة من بؤر التوتر في العالم يلحظ خاصية هامة يجب علينا فهمها والاهتمام بها وهي: الاستدراج البطيء والتعامل الهادئ مع الخصم الممزوج بالتصعيد التدريجي، أي (سياسة الشد والإرخاء) حتى إذا تهيأت الظروف دفعت الأحداث إلى إحكام الطوق والحصار العسكري بالأساطيل والجيوش والحلفاء، ثم يتبع بعدها أسلوب ساعة الحسم.
إن عدم فهم هذه الخاصية وإدراكها يوقعنا في الحيرة والاضطراب ووصف السياسة الأمريكية بالتناقض والارتباك، وهي ليست كذلك في كل وقت، ولكن يحدث أحياناً خلاف بين صانعي القرار الأمريكي حول وصول الوضع إلى ساعة الحسم وهنا قد يحدث نوع من الاجتهادات المختلفة التي تؤثر بدورها على المواقف التي تتخذها أمريكا.
وطبقاً للقاعدة السابقة فإن حديثنا عن السياسة الأمريكية تجاه السودان يسير على أربعة محاور:
المحور الأول: سياسة الاسترخاء
ومن ذلك:
– صدور تقارير صحفية تفيد اعتزام الإدارة الأمريكية بحث إمكانية إسقاط النظام السوداني من قائمة الدول الراعية للإرهاب تمهيداً لإتمام الصفقة النفطية بين الحكومة السودانية ومؤسسة “أوكسيدنتال” النفطية الأمريكية.
– الترحيب الرسمي الأمريكي باتفاق السلام الموقع في 21/4/1997م بين الحكومة السودانية وست من فصائل المعارضة الجنوبية.
– زيارة وفد أكاديمي أمريكي للسودان وبحث المشاكل التي تعوق تطوير العلاقات بين الولايات المتحدة والسودان.
– إقرار صندوق النقد الدولي اتفاق المرحلة الأولى من الإصلاح الاقتصادي ابتداءاً من أواخر يونيه 1997م.
– إعراب الإدارة الأمريكية عن انزعاجها مما نسب إلى الرئيس الإريتري حول وجود مشاركة إريترية في القتال الدائر بشرق السودان.
– السماح للسودان باستيراد المواد الغذائية من الخارج؛ حيث إنها غير مدرجة في العقوبات.
المحور الثاني: سياسة الشد
– صدور عدة تقارير أمريكية من وزارتي الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي قدمت إلى الكونجرس في الفترة من شتنبر إلى نونبر 1996م والتي أجمعت على اعتبار السودان بين الدول الأشد خطراً.
– تصريحات مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي في دجنبر 1996م، تؤكد أن استراتيجية الإطاحة بالنظام السوداني هي أفضل الخيارات المتاحة.
– في 24/11/1997م قررت الولايات المتحدة سحب البعثة الدبلوماسية من السودان.
المحور الثالث: إحكام الطوق
– في عام 1996م تم تخصيص مبلغ 20 مليون دولار في صورة مساعدات عسكرية لثلاث دول إفريقية تتعاون لإسقاط النظام السوداني وهي: إريتريا، وأوغندا، وإثيوبيا، وهو ما أكدته السفارة الأمريكية.
– في 15/12/1997م اتهم البشير أمريكا بأنها حرضت حركة التمرد على إلغاء ما تم التوصل إليه، وألقت بكل مبادئ الإيغاد في سلة المهملات دعماً لاستمرار القتال.
– عملت إدارة “كلينتون” على شل الصف الإفريقي عبر صنع لوبي بين الدول الموالية لواشنطن يتبنى فكرة إقرار آلية متعلقة بتشكيل قوة عسكرية من هذا اللوبي تتولى التدخل لفض ما تسميه واشنطن بالصراعات في القارة؛ وهي الآلية التي تشرف عليها واشنطن في أوغندا.
بعد إتمام الحصار على السودان كان الوضع مهيأ لزحف عسكري من تحالف المعارضة مدعوم بجيوش دول الجوار (إثيوبيا وإريتريا وأوغندا) وخاصة بعد أن أصبحت مصر على الحياد بعد المحاولة التي لم تنجح لاغتيال الرئيس حسني مبارك في إثيوبيا، وبدا النظام السوداني شبه معزول، وظهر أن هذا التوقيت هو الأنسب لتوجيه تلك الضربة القاصمة للنظام. ولكن سرعان ما حدثت تطورات كان من أبرزها تورط أوغندا في الصراع الذي اندلع مجدداً في الكونغو، واندلاع قتال ضارٍ بين الحليفين في القرن الإفريقي: إثيوبيا، وإريتريا. وتغير الموقف المصري من النظام السوداني بعد أن أعاد حساباته الإستراتيجية وأصبح يقف حجر عثرة في وجه هذه المخططات.
إن الحالة السودانية أكثر شبهاً بالمسألة العراقية بالنسبة للولايات المتحدة، فهي بين خيارين:
الاحتواء: وجعل السودان في حالة حصار دائم ليساعد على انهيار النظام وتفكيكه، أو ثورة الشعب عليه.
وسياسة الاحتواء الأمريكية: هي ممارسة الضغوط القوية على الخصم من جميع الاتجاهات حتى ينفجر من الداخل، وهذه السياسة باتت الخيار المفضل الذي تتبعه الإدارة الأمريكية مع الجماعات الإسلامية سواء بنفسها مباشرة أو عن طريق عملائها في المنطقة، وتجلى ذلك واضحاً في أحداث انشقاق حزب الوسط من جماعة الإخوان المسلمين، وما حدث في انفجار الخلافات داخل المجموعة الحاكمة في النظام السوداني.
التفكيك: أي تجزئة السودان إلى دويلات عدة تحت أي صيغة أو مسمى من المسميات مثل حق تقرير المصير، أو الكونفدرالية. وقد ذكرت إحدى مراكز الإعلام أن: “أولبرايت” استشارت “جيمي كارتر” الخبير في الشؤون السودانية والقرن الإفريقي (الرئيس الأمريكي الأسبق) فأشار بتفتيت السودان للسيطرة على المنطقة وإزالة النظم المعادية، وبالذات التي لها توجه ديني”.