في هذه الأثناء تتدفق المساعدات الإغاثية إلى الصومال، وعلى إثرها تتدفق أيضاً القوات الإفريقية لـ”حفظ السلام” (أميصوم)، كلاهما يسعى لسد فراغ!
الحاجة إلى الحرب والغذاء صنوان في هذا البلد المنكوب الذي لا تفتأ ميليشياته تفرغ من معركة حتى تصطنع أخرى بمسمى جديد.
يقولون: يموت طفل كل 6 دقائق في الصومال.. الأمم المتحدة تؤكد، وحركة شباب المجاهدين تنفي، وتحمل الأمر على المبالغة التي ترنو إلى تحقيق مآرب أخرى، وقد يكون خطابها صحيح بعض الشيء؛ فالحملات الإغاثية تركت تطلق في كثير من البلدان العربية التي لم تزل تنظر للجمعيات الخيرية بعين الريبة فيما تمخر “باتان”، حاملة الطائرات الأمريكية ترافقها سفينة الإنزال البرمائية “وايدباي آيلاند” وسفينة النقل البرمائية “ميزافيردي” عباب البحر الأحمر في طريقها إلى المياه الصومالية وخليج عدن بدعوى حماية السفن التجارية ضد القرصنة في القرن الإفريقي.
مضت “باتان” بحمولتها الثقيلة (61 ألف طن) للاشتباك -إن تطلب الأمر- مع زوارق سريعة ومراكب بدائية يستقلها “القراصنة”.. لا أحد يمكنه تصديق ذلك، لكن الولايات أرسلت قطعها الحربية لتتوسط دولتين “فاشلتين” بمعاييرها الاستراتيجية، هما اليمن والصومال يطلان على أحد أهم المضايق البحرية في العالم (باب المندب)، وعينها كذلك على جزيرة سقطرى الاستراتيجية.
صور الأطفال الجوعى في شهر كريم يصاب فيه البعض بالتخمة تلمس نياط القلوب، وتفجر المشاعر الطيبة في نفوس المحسنين، لكن ما يحتاجه الصوماليون يتجاوز كسرة الخبز وجرعة الماء.. واجب الوقت يحملنا على النفرة لإغاثة للمنكوبين من ضحايا المجاعات والحروب والأنا القبلية والفكرية وتصلبات العقول وتشنجات الآراء.. يحملنا أيضاً إلى معالجة كل تلك الآثار.
ومعالجتها تقتضي حلولاً جذرية لحالة التفكك التي يعيشها الصومال منذ أكثر من عقدين، وجعلته لا يقارن أبداً بحالته في ظل حكم الديكتاتور زياد بري الذي كان يتوفر جيشه على أقوى سلاح مدرعات في إفريقيا (جنوب الصحراء) فيما لم تعد تملك الحكومة الصومالية الآن إلا قوات هزيلة لا تقوم بذاتها إلا بمساعدة محتلين!
وهؤلاء المحتلون هم الرابح الأكبر من حال الفوضى والتفكك الذي يعيشه الصومال؛ فإثر ما أعلن عنه مؤخراً من انسحاب “تكتيكي” لقوات شباب المجاهدين على حد قولهم، أو هزيمة لهم بحسب الحكومة الصومالية، من العاصمة مقديشو، توجهت الحكومة على الفور لطلب عدة آلاف من أميصوم لحفظ الأمن في المدينة المنكوبة، كتطور طبيعي لحال الرعونة السياسية التي اتسم بها سلوك الفرقاء الصوماليين على مر الأعوام القليلة الماضية؛ إذ لم يكن متوقعاً أن تنجح قوات الشباب بتسليحها الخفيف في طرد القوات الأجنبية الإفريقية المدعومة بالأسلحة الثقيلة والمدرعات، وأن تتمكن من منع عاصمتهم من محاكاة العاصمتين الأفغانية والعراقية في الاحتفاظ بـ”منطقة خضراء” شديدة الإحكام والمراس.
وقد كانت ثمة أصوات عاقلة كثيرة تدعو إلى صوملة الحل، وإحداث حالات من التوافق الداخلي بين الفرقاء الصوماليين بكافة أطيافهم، وتحقيق حد أدنى مقبول من الأمن والاستقرار يمكن البناء عليه في تكوين دولة بمعنى الكلمة تتمتع بسيادة على أرضها ويمكنها حماية حدودها ومقدراتها، غير أن معظم الفرقاء لم يكونوا على قدر المسؤولية الدينية والوطنية التي تحملوها؛ فظل حرث البحر مستمراً، والخاسرون هم الصوماليون البسطاء الضعفاء دون سائر اللاعبين.. ولا شك أن “المؤامرة الخارجية” على الصومال كبيرة في إبقائه في حال الفوضى، إلا أن حظوظ الفرقاء في الداخل منها أضخم، ما بين جمود وقبلية (سواء أكانت مغلفة دينياً أو خالصة من دونه)، واعتداد بالرأي والفكر، واحتكار للحل..
إن الصومال لم يزل يفتقر إلى وجود نظامين عربي وإسلامي رسميين يمكنهما أن يساهما في إيجاد حلول عملية وناجعة للوضع المأساوي في الصومال، كما لا تنقصه جهود استخبارية عالمية تعمل على إبقائه في حال الفوضى المزمنة، غير أنه يظل زاخراً بالمصلحين والعقلاء الذين سيتداعون بالتأكيد إلى مصافحة أيدٍ ترفع عن الأمة كلها الحرج بمبادرة حسنة يقودها حكماء من خارج الصومال، قد تكون الثورات العربية الأخيرة قد حررت أيديهم من الفعل الميمون في هذا العمل الصالح المبارك، ولعل في الضعف العسكري للقوات الحكومية (بذاتها)، والتراجع العسكري لخصومها، ما يطامن من غلواء الفرقاء ويحد من ارتفاع أسقف طموحاتهم في نظام الحكم القادم..
بل لعل المزاج الدولي قد بدأ يتقبل مشاركة من سعى لإقصائهم من قبل عن المعادلة السياسية في الصومال، وقد تكون مناشدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشباب لعدم إعاقة الإغاثة مما يؤشر إلى استعداد ما للاعتراف الضمني بوجوده كلاعب حقيقي معتبر في الصومال.
هذا البلد المنكوب مثلما يحتاج إلى الإغاثة والغذاء يعوزه الأمن، والحل السياسي المرن، والحكمة من الوسطاء، والاعتراف بوجوب أخذ تنوعاته الفسيفسائية سواء الأيديولوجية أو القبلية موضع الاعتبار.. يحتاج إلى جرأة من وسطاء مخلصين يضمون بين ظهرانيهم شخصيات لها قبول متنوع عند كافة الأطياف وتحظى بدعم إقليمي أو “لا ممانعة”، وضمانات ووعود يتم السعي إلى توفيرها وتحقيقها… وإلا؛ فإلى الاستسلام لمصير الفناء.