قام الصراع بين الإسلام من جانب؛ والنحل الفاسدة والملل الضالة من جانب آخر؛ منذ اليوم الأول الذي صدع فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه في تبليغ رسالته؛ ثم لم يزل يشتد إلى يوم الناس هذا.
وكان أهم ميدان من ميادين الصراع بين الإسلام وخصومه: هو اللغة العربية نفسها لغة القرآن العظيم؛ ولغة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
حتى إنه كان في منتصف القرن الماضي من يدعو إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية -عبد العزيز فهمي باشا-؛ ومن عجب أنه كان يدعي المحافظة على الفصحى!
ورد الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى على هذه الدعوى بقوله: “ما أظن عاقلا يخدع بعد ذلك فيصدق الباشا في ادعائه: أنه يريد المحافظة على العربية الفصحى وهو يسخط عليها كل هذا السخط ويندد بها كل هذا التنديد؛ بل يندد بالأمم المنفصلة سياسيا أن لم يدُر بخَلَدِ أحدٍ من أهلها أن يجعل من لهجته لغة قائمة بذاتها لها نحوها وصرفها!!
فإن لم تكن هذه دعوة صريحة إلى تمزيق العربية إلى لغات عدة -كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والأسبان- فما ندري كيف تكون الدعوة بل يدري أحد من الناس. (الشرع واللغة لأحمد شاكر ص:55).
وكانت الدعوة إلى العامية قد ظهرت كالرّجسِ النجسِ وتولى كبرها أحمد لطفي السيد؛ فدعى إلى تمصير اللغة وإلى كثير من الهراء تعرفه متى طالعت كتاب الأستاذ محمود شاكر “أباطيل وأسمار” في المقالة الحادية عشر ومواضع أخر في هذا الكتاب الجليل، وأيضا تتضح لك صورة الدعوة إلى العامية وتاريخها في كتاب “تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر” للدكتورة نفوسة زكريا سعيد؛ وهو الكتاب الذي قال عنه الأستاذ محمود شاكر لو كان لي من الأمر شيء لأمرت أن يطبع هذا الكتاب ليكون في يد كل شاب وشابة وكل رجل وامرأة ويكون له مختصر ميسر لكل من مكنه الله من القراءة. (أباطيل وأسمار ص:154).
كانت “العامية ظاهرت في كل اللغات وهي لازالت إلى جانب العربية منذ أقدم عصورها دون أن تزحزحها عن ميدانها الأدبي، وكان اهتمام العلماء القدامى بدراستها جزء من اهتمامهم بالفصحى. لكن هذه الظاهرة -أي: وجود الفصحى والعامية في اللغة العربية- اعتبرت في عصرنا مشكلة أرجع إليها أسباب تأخر أبناء العربية، واقتُرح لحلها اتخاذ العامية لغة للأدب والكتابة حتى تكون لنا لغة واحدة للحديث والكتابة” (تاريخ الدعوة إلى العامية للدكتورة نفوسة زكريا سعيد ص:8).
فوضعت تلك الدعوة وليد سوئها واستقر في الأذهان أن العربية لغة صعبة وعلى وجه التحديد نحوها وصرفها، وليس من شك أن قواعد اللغة قد صيغت في بعض جوانبها صياغة عسيرة على الفهم، ولكن الحمل على الفصحى بالصعوبة والشذوذ دون لغات العالمين أمر لا يخفي ما فيه من الحيف والجور، بل غيرها من اللغات أعرق في الصعوبة منها وأمعن في العسر منها، ثم إذا كان هناك عسر فلندع إلى التيسير لا إلى الهجر والتغيير!!
قال الأستاذ عبد السلام هارون رحمه الله في كتابه قطوف أدبية ص:149: “ليس معنى تيسير النحو أن نقضي على قواعده الأساسية وعلى اصطلاحات جمهور النحاة التي تشربتها الأجيال وسرت في العروق والدماء أعني عروق التراث الإسلامي ودماء الثقافة العربية؛ فالترابط وثيق شديد الصلة بين علم النحو والبلاغة التفسير والحديث والفقه الإسلامي ونصوص الأدب العربي؛ جاهلية وإسلامية؛ وبين كثير غيرها من فروع الثقافة العربية..
إننا ننادي بتيسير النحو وبتيسير غير النحو؛ بل بتيسير كل صعب في هذا الوجود؛ ولكننا لا نغفر أن تمس أصول العربية استنادا إلى آراء بعض شذاذ النحويين؛ وارتكانا إلى آراء فردية لا تمت إلى مدارس ذات قدر موزون”. اهـ
وليست العربية بدعا في صعوبة نحوها وصرفها ويبين هذا عالم من أهل الذكر درس إلى العربية غيرها من لغات الشرق والغرب، وحكمه في ذلك لا شك في عدله وإنصافه.
يقول الأستاذ الدكتور رمضان عبد التواب: “يسود بين جمهرة المثقفين العرب شعور مدمر بأن لغتنا الجميلة العربية الفصحى لغة معقدة القواعد صعبة التعليم كثيرة الشذوذ في مسائلها وقضاياها؛ بحيث تجعل من تعلمها أو استخدامها أو التحدث بها عبئا ثقيلا على أهلها.
ولقد انتهز المغرضون هذه الفرصة وأخذوا يصيدون في الماء العكر؛ ويدعون إلى استخدام العامية وهجر الفصحى أو خلطها بالعامية، وهي دعوة حمل لوائها منذ فترة طويلة المعادون للإسلام وأهله؛ فادعوا أن إعراب العربية الفصحى أمر عسير التعليم ليصرفوا المسلمين عن منبع دينهم وعماد شريعتهم ودستور حياتهم وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله عز وجل بهذه العربية الفصحى.
والحق؛ أن هذا الإعراب الذي يوصف بأنه معقد وصعب لا تنفرد به العربية الفصحى وحدها بل إن هناك لغات كثيرة لا تزال تحيى بيننا وفيها من ظواهر الإعراب المعقد ما يفوق إعراب العربية بكثير. فهذه هي اللغة الألمانية مثلا تقسم أسماءها اعتباطا إلى مذكر ومؤنث؛ وجنس ثالث لا تعرفه العربية وهو المحايد؛ وتضع لكل واحد من هذه الأجناس الثلاثة أربع حالات إعرابية هي حالات: الفاعلية، والمفعولية، والإضافة، والقابلية.
وهذه الحالة الأخيرة لا تعرفها العربية وهي إعراب المفعول الثاني، فهي من حالات المفعولية في العربية، وليست حالة خاصة فيها. تلك هي حالات إعراب الاسم المفرد المعرف في الألمانية..
فليست العربية بدعا بين اللغات في صعوبة القواعد غير أن شيئا من هذه الصعوبة يعود بالتأكيد إلى طريقة عرض النحويين لقواعدها فقد خلطوا في هذه القواعد بين الواقع اللغوي والمنطق العقلي، وبعدوا عن وصف هذا الواقع إلى المماحكات اللفظية وامتلأت كتبهم بالجدل والخلافات العظيمة، فضلَّ المتعلم وسط هذا الركام الهائل من الآراء المتناقضة في بعض الأحيان.
والحقيقة أن القواعد الأساسية لنحو اللغة العربية يمكن أن تستخلص في صفحات قليلة مصفاة من هذا الحشو الذي لا طائل وراءه. (فصول في فقه العربية ص:415 للدكتور رمضان عبد التواب؛ انظر فضائل العربية للشيخ محمد رسلان).