أعظم مصيبة منيت بها أمة الإسلام

من أعظم المصائب التي يمنى بها العبد المصيبة في الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي، فإنها أعظم المصائب”، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه” (تفسير القرطبي 2/176).

لقد كرم الله عز وجل نبيه محمدا تكريماً عظيما -في الدنيا والآخرة- ما كرمه أحدا من العالمين، لكن هل الفضل وهذه المكانة العلية التي حازها المصطفى صلى الله عليه وسلم والتي بلغ بها منزلة الخلة لم تحل بينه وبين الموت، قال تعالى: “إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ” (الزمر)، وقال تعالى: “وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِين مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ” (الأنبياء)، وقال جل وعلا: “إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً”(الفتح).
أخرج الطبرانى عن جابر بن عبد الله أنه قال لما نزلت هذه السورة قال النبي لجبريل: “نعيت إلى نفسى يا جبريل”، فقال جبريلُ: والآخرة خير لك من الأولى.
وفي أول شهر ربيع الأول من العام الحادي عشر للهجرة بدأ رسولُ الله يحسُ بالألم الشديد في رأسه، فكان أولَ ما ابتدأ به رسول الله أنه خرج إلى بقيع الغرقد. فسلم على أهل البقيع واستغفر لهم.
تقول عائشة رضى الله عنها فلما رجع رسولُ الله من البقيع وجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول وارأساه فقال: “بل أنا والله يا عائشة وارأساه” البخاري.
فقامت عائشة رضي الله عنها الصديقةُ بنت الصديق ترقى النبي صلى الله عليه وسلم وتنفثُ على نفسه بالمعوذات التى كان ينفث بها، وتسمح بيده الشريفة، وفي رواية مالك في موطأ: “وأسمح بيد رسول الله لأنها كانت أعظمَ بركةً من يَدى”.
واشتد الوجعُ برسول الله وهو في بيت ميمونة رضي الله عنها فدعا نساءه فاستأذنهن في أن يمرض في بيت عائشة فإذنَّ له رضي الله عنهن.
واشتد الوجعُ والألمُ برسول الله حتى قَلِق الصحابةُ قلقاً شديداًَ وحزنوا حزناً بليغاً فشعر النبيُ بهذا الحزن وهذا القلق، فأمرهم أن يصبوا عليه الماء.
تقول عائشة فأجلسناه في مخضبٍ لحفصة ثم طفقنا نصبُّ عليه من تلك القرب حتى طفق يقول حسبُكم حسبُكم.
ثم خرجَ إلى الناس عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر.
فكان أول ما ذكر بعد حمدِ الله والثناء عليه ذكر أصحابَ أحدٍ فاستغفر لهم ودعا لهم وأكثر الصلاة عليهم، ثم قال:
“أيها الناس إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها كما تنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكتكم” متفق عليه.
ثم قال: “إن عبداً من عبادِ الله خيره الله بين الدنيا والأخرة وبين ما عند الهك، فاختار ما عند الله”، ففهمها أبو بكر وعرف أن العبد المخير هو رسولُ الله فبكى الصديق، وقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بل نحن نفديك بأبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا فعجب الناسُ من بكاء أبى بكر فقال الرسول: على رسلك يا أبا بكر.
ثم قال: “أيها الناس إنَّ أمنَّ الناس علي بصحبته وماله أبو بكر، كلكم كان له عندنا يدٌ كافأناه بها متخذاً إلا الصَّديق فإنا تركنا مكافأته لله عز وجل.
لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة وصحبة، وانظروا إلى هذه الأبواب النافذة إلى المسجد فسدوها إلا بيت أبي بكر”. متفق عليه
ثم قال: “يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرًا فإن الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها فأحسنوا إلى مُحْسِنِهم وتجاوزوا عن مُسيِئهِم” متفق عليه.
ثم نزل رسول الله فدخل بيت عائشة وتقامَّ به وجعه، وثقل عليه المرض، ولم يعد يقدر على الخروج للصلاة بالمسلمين، فأمر النبي أن يصلي أبو بكر بالمسلمين.
ثم دخل عبد الرحمنُ بن أبى بكر كما تقول عائشة رضى الله عنها وبيده سواك، وأنا مسندة رسول الله إلى صدري، فرأيته ينظر إلى السواك، وأنا أعرف أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك يا رسول الله، فأشار برأسه: أن نعم. فتناولته فأخذته، ومضغته، ثم لينته، ثم طيبته، ثم أعطيته لرسول الله فاستاك به جيداً، فلما انتهى أخذت السواك وأخذتُ أمْتَصُ من السواك ريق رسول الله، فكان هذا هو آخر عهدي بريق المصطفى” البخاري مسلم.
فجمع الله بين ريقي وريقه في أخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة.
وكان بين يديه ركوة فيها ماء فجعل يُدخل يده في الماء فيمسح بهما وجه ويقول: “لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرات الموت” البخاري.
وأقبلت عليه فاطمة الزهراء رضى الله عنها وكانت من أحب الناس إلى رسول الله وكانت إذا دخلت عليه في حالة صحته قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه ولكنه اليوم لا يستطيع القيام، فقد “دعا النبي فاطمة عليها السلام في شكواه الذي قبض فيه فسارها بشئ فبكت، ثم دعاها فسارها بشئ فضحكت، فسألنا عن ذلك فقالت: سارني النبي أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أولُ أهله (لحوقاً به) يتبعه، فضحكت” البخاري.
فلما كان يوم الأثنين الذي توفي فيه رسول الله خرج إلى الناس وهم يصلون الصبح فرفع الستر وقام على باب عائشة فكاد المسلمون يُفتنون في صلاتهم فرحاً برسول اله حين رأوه، وهمَّ أبو بكر أن يتأخر فأشار إليهم أن أثبتوا على صلاتكم وتبسم لما رأى من هيئتهم في صلاتهم ثم رجع وأرخى الستر. البخاري.
وعاد وقد اقترب الأجل وبدأت اللحظات الأخيرة من عمره الشريف تتلاشى وتنتهي، تقول عائشة رضي الله عنها: “مات رسول الله بين سحري ونحري وأنا مسندته إلى صدري، فرأيته رفع يده أو إصبعه ثم قال: بل الرفيق الأعلى..، بل الرفيق الأعلى..، بل الرفيق الأعلى.. فعلمت أنه لا يختارنا. البخاري.
ولما ثقل النبي قالت فاطمة عليها السلام: واكرب أبتاه، فقال لها: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب. البخاري.
مات رسول الله.. مات المصطفى محمد … مات خير خلق الله.. مات إمام الأنبياء ومات إمام الأصفياء.. مات إمام الأتقياء.
وقام عمر يصرخ ويقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات، وإن رسول الله والله ما مات ولكنه ذهب إلى لقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم، والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات.
ولما سمع أبو بكر الخبر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي! والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي عليك فقد متَّها، وخرج أبو بكر وعمر يتكلم، فقال: اجلس يا عمر، وهو ماضٍ في كلامه، وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكر في الناس خطيبًا بعد أن حمد الله وأثنى عليه فقال:
أما بعد: فإن من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِين مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ” (آل عمران).
قال عمر: فوالله ما إن سمعت أبا بكر تلاها فهويت إلى الأرض ما تحملني قدماي، وعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، البخاري.
ثم غسلوه في ثبابه، وكفنونه، ودفنوه في حجرة عائشة رضى الله عنها.
والله إن العين لتدمع.. وإن القلب ليحزن.. وإنا لفراق رسول الله لمحزونون.
فلترسخ هذه الحقيقة في القلوب والعقول ولنعلم أن قدر رسول الله في قلوبنا على قدر اتباعنا له، فمحبتنا له تستلزم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *