النية هي شرط العمل الصالح الأول، وشرطه الثاني هو المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء).
والجنة إنما يدخلها المؤمنون بالعمل الصالح كما قال تعالى: (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، وبهذا يتبين عظم موقع النية والمتابعة في الدين، وفي عاقبة الإنسان في دنياه وآخرته، فتذكر أيها السني!
سعد الذين تجنبوا سبل الردى **** وتيمموا لمنازل الرضوان
فهم الذين أخلصوا في مشيهم **** متشرعين بشرعة الإيمان
قال داود الطائي “رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية”.
والمؤمن الذي عمر الله قلبه بالإيمان والتوحيد والإخلاص لا شك أنه يتهم نفسه ويخشى على نفسه من كل ما يضاد أصل الإيمان والتوحيد والإخلاص أو كماله، والجاهل أو فاسد العقيدة صاحب الهوى لا يرى بالمؤمنين حاجة إلى نصح الناس في ذلك، وأنه يجب صرف الناس إلى طلب الفقه والأحكام العملية فحسب.
قال الحسن البصري رحمه الله وهو سيد التابعين ديانة وتقوى وورعا في النفاق: “لا يخافه إلا مؤمن، ولا يأمنه إلا منافق”.
وقال ابن أبي مليكة رحمه الله: “أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق”.
ذكرهما البخاري رحمه الله في صحيحه تعليقا مجزوما به، نسأل الله السلامة والعافية.
وسلفنا الصالح رحمهم الله مع أنهم كانوا في القرون المفضلة لما رأوا أمارات قد يستدل بها على فساد النية صاحوا بأهلها، وذلك من باب نصحهم وحملهم على الانتهاء عما يفسد أعمالهم، والنصيحة من مقتضى الإخوة.
من ذلك ما ذكره الربيع بن صبيح رحمه الله قال: “كنا عند الحسن فوعظ، فانتحب رجل، فقال الحسن: أما والله ليسألنك الله يوم القيامة ما أردت بهذا” رموز الكنوز.
وكذلك رأى سفيان الثوري رحمه الله حال الناس في طاعاتهم، وبكائهم في بعض المقامات فقال: “البكاء عشرة أجزاء: جزء لله، وتسعة لغير الله، فإذا جاء الذي لله في العام مرة فهو كثير” سير أعلام النبلاء.
وكذلك تكلم العلماء في حقيقة اصطناع البعض للخشوع في الصلاة، وتكلف الخشوع ظاهرا مع خلوه منه باطنا وحذروا من ذلك غاية التحذير.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه وأطرافه مع فراغ قلبه من الخشوع وخلوه منه، كان ذلك خشوع النفاق، وهو الذي كان السلف يستعيذون منه كما قال بعضهم: (استعيذوا بالله من خشوع النفاق، قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع)، فمن أظهر خشوعا غير ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق” الخشوع في الصلاة .
ولذلك كان السلف يعالجون نياتهم خشية أن ترد أعمالهم في وجوههم، قال سفيان الثوري رحمه الله: “ما عالجت شيئا اشد عليَّ من نيتي لأنها تتقلب عليَّ”.
وقال يوسف بن أسباط رحمه الله: “تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد” جامع العلوم والحكم.
ولا يعارض هذا ما جاء عن بعض السلف أن تجريد الإخلاص لله وحده أيسر من مصانعة المخلوقين.
قال أبو حازم سلمة بن دينار رحمه الله: “لا يحسن عبد فيما بينه وبين الله، إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد، ولا يعور ما بينه وبين الله، إلا عوّر فيما بينه وبين العباد، لمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها، إنك إذا صانعته مالت الوجوه كلها إليك، وإذا استفسدت ما بينه، شنئتك الوجوه كلها” سير أعلام النبلاء.
فتجريد التوحيد لله وحده يسير على من يسره الله عليه، وأما المشقة في ذلك فهي ظاهرة لمجاهدة الخواطر الشيطانية التي ترد على القلب، وأما مراءاة الناس فهو أشق لأن الناس لا يرضيهم شيء، وما يرضيهم اليوم يسخطهم غدا، وأهواؤهم كثيرة متقلبة، فمن جعل قصده ونيته تبعا لأهواء الخلق أصابه الشقاء الدنيوي والأخروي، فهذا المراد بالمشقة، وضده اليسر في إرضاء الواحد الأحد الذي لا شريك له، والعبد يعينه الله على الإخلاص الذي به الخلاص.
إذا أردنا أن نعرف حقيقة ما تنطوي عليه بواطننا من إرادات فاسدة فلنزنها بالميزان الذي يكشف حقيقة ما نحن عليه وما ينبغي أن نصير إليه.
ففي كتاب الزهد لوكيع رحمه الله قال مطرف رحمه الله: “إن العبد إذا استوت سريرته وعلانيته، قال الله: هذا عبدي حقا” والله المستعان.
وقد تحدث السلف عن بواطنهم، فقال القحطاني رحمه الله في نونيته:
والله لو علموا خبيء سريرتي —- لأبى السلام عليَّ من يلقاني
وتكلم العلماء رحمهم عن حقيقة ما يعتري البواطن من تقلب وفساد نحتاج معه إلى معالجة وتصحيح، وتعاهد مستمر حتى يفارق العبد هذه الدار الفانية وهو مقيم على التوحيد كما قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “وأما الشرك في الإرادات والنيات، فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته، والإخلاص: أن يخلص لله في أفعاله وأقواله، وإرادته ونيته.
وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام، كما قال تعالى (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وهي ملة إبراهيم عليه السلام التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء” الجواب الكافي.
فاحرص عبد الله عند العمل بعد تحقيق شرط المتابعة على إصلاح النية حتى تحسن الطوية، فتسير على السبيل المبين والسوية، والموفق الله رب البرية.