مجاهدة هوى النفوس “وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله”

لا شك أن في مخالفة النفوس لهواها اعتزازها وقوتها ومنعتها من الشيطان وجنوده وعدم ذلها، فقمع هوى النفوس بمقمعة المتابعة، وضربها بسياط الاقتداء، وصرفها بزمام التقوى، به يحصل العز والامتناع والقوة والارتفاع بحسب الاتباع ومخالفة الابتداع.

قال عليه الصلاة والسلام: “أفضل المؤمنين إسلاما من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وأفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله تعالى، وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله تعالى” صحيح الجامع.
وعليه فلا يستطيع العبد التسنُّم والصعود إلى محاب الله إلا بمجاهدة هوى النفس.
قال المرداوي في منظومة الآداب:
وفي قمع أهواء النفوس اعتزازها *** ونيلها ما تشتهي ذل سرمدي
فلا يحصل الرجوع عن هوى النفس ومحبوباتها الشهوانية المطبوعة عليها إلا بمجاهدة وتصبر واحتمال مشقة حتى تطمئن النفس فإذا اطمأنت أحبت ما يحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ونشأ عن هذه المحبة امتثال الأوامر واجتناب المناهي والرضى بالقضاء والقدر.
بيان حقيقة الهوى
لفظة الهوى في الأصل هو ميل النفس إلى ما تحب من الخير والشر.
قال ابن الجوزي رحمه الله معرفا له: “ميل الطبع إلى ما يلائمه وهذا الميل قد خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم ما أكل، وإلى المشرب ما شرب، وإلى المنكَح ما نكح، وكذلك كل ما يشتهيه فالهوى مستجلب له ما يفيد، كما أن الغضب دافع عنه ما يؤدي، فلا يمدح الهوى على الإطلاق وإنما يذم المفرط من ذلك، وهو ما يزيد على جلب المصالح ودفع المضار، ولما كان الغالب من مواقف الهوى أنه لا يقف منه على حد المنتفع أطلِق ذم الهوى والشهوات لعموم غلبة الضرر” ذم الهوى.
فإذا ذكر الهوى مطلقا أو ذكر ذمه فإنما يراد به الهوى المذموم لأنه الغالب.
قال الأصفهاني رحمه الله: “والهوى المذموم هو الميل إلى كل باطل ومحرم وإليه ينصرف عند الإطلاق وإنما سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية” المفردات.
قال الشعبي رحمه الله: “إنما سمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه” رواه الدارمي في سننه.
قال بعضهم:
إن الهوان هو الهوى قصر اسمه *** فإذا هويت فقد لقيت هوانا
قال آخر:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك *** الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقال
قيل للحسن البصري رحمه الله: “يا أبا سعيد: أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك”.
قال تعالى: “فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى”.
قال الألوسي رحمه الله عند قوله تعالى: “وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى”: “أي: زجرها وكفها عن الهوى المُردي، وهو الميل إلى الشهوات، وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخيرات، ولم يعتدَّ بمتاع الدنيا وزهرتاها، ولم يغتر بزخارفها وزينتها علما بوخامة عاقبتها..قال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر إلى هواك فخالفه. وقال الفضيل بن عياض: أفضل الأعمال مخالفة الهوى” روح المعاني.
وقال الشاطبي رحمه الله في الموافقات: “قد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق وعده قسيما له كما في قوله تعالى: “يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ”..وقال: “وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي -وهو الشريعة- والهوى، فلا ثالث لهما”.
وفي خصوص هذا الذي ذكره الشاطبي رحمه الله يحكى عن بعضهم أنه كان يطوف بالبيت فنظر إلى امرأة جميلة فمشى إلى جانبها ثم قال:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدين
فقالت له: دع أحدهما تنل الآخر.
وما أحسن قول بعضهم:
إذا طالبتك النفس يوما بشهوة *** وكان عليها الخلاف طريق
فخالف هواها ما استطعت فإنما *** هواها عدو والخلاف صديق
وقيل لبعض الحكماء: من الملوك؟ فقال: من ملك هواه واتبع رضا مولاه.
وكان الجنيد رحمه الله يقول:
إذا خالفت النفس هواها *** صار داؤها دواها
عاقبة الهوى المذموم
وليعلم أن الهوى المذموم راجع إلى اتباع الشبهات والشهوات. قال ابن رجب رحمه الله: “وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع ولهذا يسمى أهلها أهل الأهواء.
وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه” جامع العلوم والحكم.
والغرض حمل النفس على مجاهدة هواها عموما والحذر من اتباعه، فالهوى عن الخير صاد، وللعقل مضاد، لأنه يُنتج من الأخلاق قبائحها، ويُظهر من الأفعال فضائحها ويجعل ستر المروءة مهتوكا، ومدخل الشر مسلوكا.
قال بشر بن الحارث رحمه الله: “اعلم أن البلاء كله في هواك والشفاء كله في مخالفتك إياه”.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضى الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له هواه” منهاج السنة.
آثار اتباع الهوى
وليعلم أن لاتباع الهوى آثار سيئة من أهمها:
1- سبب لفساد الأمور، قال تعالى: “وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ”.
2- سبب الضلال عن الهدى والهوان في الدنيا: قال تعالى: “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ”.
3- أنه موجب للعقوبة من الله، قال تعالى: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ”.
4- أنه يورث الكبر والعجب.
5- أنه يصد عن قبول الحق واتباعه، ويزين الباطل ويقلبه في صورة الحق.
قال ابن تيمية رحمه الله: “وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله” الفتاوى.
6- أنه سبب في ظلم العبد لنفسه ولغيره.
7- أنه يضعف الإرادة والعزيمة ويخذل عن طلب المعالي.
8- أنه سبب في البعد عن السنة والنطق بالبدعة.
9- أنه سبب للهموم والأحزان.
10- أنه سبب التفرق والاختلاف وكثرة الشقاق والنزاع.

السبيل العملي لمجاهدة هوى النفوس
وقد تكلم الإمام ابن الجوزي رحمه الله عن السبيل العملي لمجاهدة هوى النفوس فذكر في ذلك سبعة أشياء في كتابه ذم الهوى:
1- التفكر في أن الإنسان لم يخلق للهوى العاجل وإنما للنظر في العواقب والعمل للآجل.
2- أن يفكر في عواقب الهوى فكم فوت من فضيلة وكم أوقع في رذيلة.
3- أن يتصور العاقل انقضاء غرضه من هواه، ثم يتصور الأذى الحاصل عقب اللذة فإنه يراه يربي على الهوى أضعافا.
4- أن يتصور ذلك في حق غيره ثم يتلمَّح عاقبته بفكره.
5- أن يتفكر فيما يطلبه من اللذات فإنه سيخبره العقل أنه ليس بشيء وإنما عين الهوى عمياء.
6- أن يتدبر عز الغلبة وذل القهر فإنه ما من أحد غلب هواه إلا أحس بقوة وعز، وما من أحد غلبه هواه إلا وجد في نفسه ذل القهر.
7- أن يتفكر في فائدة المخالفة للهوى من اكتساب الذكر الجميل في الدنيا وسلامة النفس والعرض والأجر في الآخرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *