التَحابُّ في الله والأخوة في دينه من أفضل القربات وألطف ما يستفاد من الطاعات في مجاري العادات، ولها شروط بها يلتحق المتصاحبون بالمتحابين في الله تعالى، وفيها حقوق بمراعاتها تصفوا الأخوة عن شوائب الكدورات ونزعات الشيطان، فبالقيام بحقوقها يتقرب إلى زلفى، وبالمحافظة عليها تنال الدرجات العلى.
رابطة الأخوة الحقة
إننا في أزمنة عزت فيها معاني الأخوة الحقة وصار الناس يتعارفون على المصالح الدنيوية، فيحبون ويبغضون ويعطون ويمنعون على الدنيا، ولم يكن على ذلك السلف الصالح بل كانوا لا يحبون أحدا ولا يصحبونه إلا إذا علموا رضا الله تعالى فيه.
فرابطة الأخوة الحقة الإيمان الصادق كما قال تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ”.
قال الشوكاني رحمه الله في فتح القدير: “والمعنى أنهم راجعون إلى أصل واحد وهو الإيمان، قال الزجاج: الدِّين يجمعهم”.
فالأخوة والصحبة في الله تعالى لها شأن عظيم، دلَّ على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عمله الثاني وهو يمهد للدولة الإسلامية الناشئة في المدينة أن آخى عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار وهذا بعد بناء المسجد الذي كان العمل الأول.
أين الإخوان وأين الأخوة؟
وهو سؤال يطرح نفسه بشدة، قال ابن الجوزي رحمه الله: “هيهات !رحل الإخوان وأقام الخُوَّان وقل من ترى في الزمان إلا من إذا دعي مان، كان الرجل إذا أراد شين أخيه طلب حاجته إلى غيره، ثم قال: نسخ في هذا الزمان رسم الأخوة وحكمه فلم يبق إلا الحديث عن القدماء، فإذا سمعت بإخوان صِدق فلا تصَدق”.
قال بعضهم:
سمعنا بالصديق ولا نراه *** على التحقيق يوجد في الأنام
وأحسبه محالا جوزوه *** على وجه المجاز من الكلام
قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً” أي: مودَّة ومحبة في قلوب أوليائه، فيحبهم الله عز وجل ويملأ قلوب الناس بمحبتهم، كما قال بعض السلف: إذا أقبل العبد بقلبه على الله عز وجل أقبل عليه بقلوب أوليائه حتى يرزقهم مودته.
ومدح الله تعالى الأنصار بحبهم للمهاجرين فقال تعالى: “وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”.
وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له ملَكًا على مدرجته فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أخا لي في هذه القرية، قال: فهل له عليك من نعمة تربها، قال: لا، إلا أني أحبُّه في الله عز وجل قال: فأني رسول الله إليك إن الله أحبك كما أحببته فيه”.
وعنه رضي الله عنه قال: “إذا عاد المسلم أخاه أو زاره قال الله تعالى: طبت وطاب ممشاك وتبوأت في الجنة منزلا” رواه أحمد وغيره وحسنه الألباني.
قال بعض السلف: عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة.
وقال عمر رضي الله عنه: عليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم، فإنهم زين في الرخاء وعدة في البلاء.
وقال عياش بن مطرف: لا حياة لمن لا إخوان له.
حقوق الأخوة
ولهذه الأخوة والصحبة حقوقا منها الواجبات ومنها المستحبات وجملة ذلك كالآتي:
1- الإخلاص في الصحبة والأخوة بأن تكون لله لا لغرض من الدنيا، ومن دلائل ذلك دوامها، فما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل.
2- بذل اللسان ومن مظاهره التودد والتكلم بأحسن الحديث والكلام والثناء على الأخ بمحاسنه في غيبته وشكره على حسن معاملته.
3- اجتناب سوء الظن فإن مقتضى الأخوة الحقة حسن الظن، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث”.
وروى الإمام أحمد في الزهد وغيره: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت تجد لها في الخير محملا”.
4- حفظ العرض كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: “كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”.
5- العفو عن الزلات إلا تأديبا، والعفو عليها بعدَم تعظيمها إذا كانت من الأمور الدنيوية، وأن ينظر إلى غالب حسناته.
6- اجتناب المراء والجدال والمماراة لأن ذلك مذهب للإخاء وموقع في البغضاء.
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: “من ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتا في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى الجنة”.
7- الإعانة بالمال أو النفس أو الجاه حسب المستطاع.
صفات من تؤثر صحبتهم
الصاحب ساحب، وصحبة أهل الصلاح وإخاؤهم تورث الصلاح ومن أنفع الأمور للعبد مجالسة إخوانه الصالحين.
قال ابن الجوزي رحمه الله: “صاحب أهل الدين وصافهم واستفد من أخلاقهم وأوصافهم”.
قال رجل لداود الطائي: أوصني قال: “اصحب أهل التقوى فإنهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤونة، وأكثرهم لك معونة”.
وسئل أبو حمزة الشيباني عن الإخوان في الله من هم قال: هم العاملون بطاعة الله عز وجل المتعاونون على أمر الله عز وجل وإن تفرقت دورهم وأبدانهم.
لكن “ما كل أحد يستحق أن يعاشر ولا يصاحب ولا يسارر” كما قال القرافي رحمه الله.
قال بعض العلماء لا تصحب إلا أحد رجلين: رجل تتعلم منه شيئا في أمر دينك فينفعُك، أو رجل تعلِّمه شيئا في أمر دينه فيقبل منك، والثالث فاهرب منه.
وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرك ويسترك عيبك، فيكون معك في النوائب ويؤثرك بالرغائب وينشر حسنتك، ويطوي سيئتك فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك.
وقد ذكر العلماء في من تؤثر صحبته ومحبته خمس خصال:
العقل وهو: رأس المال، وحسن الخلق، وأن لا يكون فاسقا، ولا مبتدعا، ولا حريصا على الدنيا.
آفات الصحبة والأخوة
للصحبة والأخوة جملة من الآفات ينبغي الحذر منها:
أولا: كثرة الزيارات والمجالس التي هي مجالس لغو ومؤانسة وقضاء وطر أكثر منها مجالس ذكر وتذكير وتعاون على البر والتقوى، فتضيع الأوقات وتذهب المروءات وربما جر إلى معصية رب الأرض والسماوات.
ثانيا: الحذر من الإفراط في الحب والبغض، فعن علي رضي الله عنه قال: أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض عدوك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما.
والمقصود الاقتصاد في الحب والبغض فإن الإسراف في الحب داع إلى التقصير وكذلك البغض.
ثالثا: الاستكثار من الإخوان بقيد العجز عن القيام بحقوقهم، قال ابن حزم رحمه الله في مداواة النفوس: “ليس شيء من الفضائل أشبه بالرذائل من الاستكثار من الإخوان والأصدقاء”.
رابعا: الاشتغال بالإخوان والأنس بهم دون تفريغ القلب للفكر والاستئناس بالله الذي هو أول مطلوب القلوب وأعظم سبب لسعادتها ونجاتها، وقد قيل: الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس.
فعلى المسلم الراغب في تحقيق رابطة الأخوة الشرعية الحقة العلم بحقوقها وبصفات أصحابها، واجتناب آفاتها.