عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
– إمام عادل.
– وشاب نشأ في عبادة الله.
– ورجل قلبه معلق في المساجد.
– ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه.
– ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله.
– ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
– ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه” متفق عليه.
في هذا الحديث النبوي الشريف تقسيم لطيف وبيان شاف لأولئك السعداء الأبرار الذين نالوا الكرامة الإلهية والسعادة الأبدية في دار الخلد والنعيم بسبب ما قدموا في الدنيا من صالح الأعمال، واتصفوا به من جميع الخصال.
قال أحد أهل العلم:
وقال النبي المصطفى إن سبعة *** يظـلهـم الله الكــريم بظلــه
محب عفيــف نــاشئ متصــدق *** وباك مصل والإمام بعـدله
وقد وقع التحاور قديما بين الفحول من أهل العلم كما يقول السيوطي رحمه الله هل لهؤلاء السبعة ثامن وتاسع أو لا؟ والراجح الأول كما جنح إليه السيوطي وابن حجر بل هو الحق الذي دلت عليه النصوص.
وإذا كان الأمر كذلك فما وجه تخصيص هؤلاء السبعة بالذكر؟
وأشهر ما قيل في ذلك ما ذكره العلامة الكرماني رحمه الله ووجهه أن الطاعة تحتمل أن تكون بين العبد وبين الله، وهي إما باللسان وهذا إشارة إلى قوله في الحديث: “ورجل ذكر الله”، أو بالقلب وهذا إشارة إلى قوله في الحديث: “ورجل قلبه معلق” وإما بجميع البدن وهذا إشارة إلى قوله في الحديث: “وشاب نشأ”.
وقد أضاف النبي صلى الله عليه وسلم الظلَّ إلى رب العزة إضافة تشريف وتكريم كما في الفتح وعمدة القاري.
والظل في الحديث هو ظل العرش كما في رواية صحيحة عنه صلى الله عليه وسلم ورد فيها قوله: “يظلهم الله في ظل عرشه”، وهذا هو الحق كما جزم به القرطبي ورجحه الحافظ في فتحه، فإن للعرش ظلا والأحاديث التي دلت على ذلك بلغت التواتر كما نص عليه الإمام الذهبي في العلو.
فيوم القيامة يقوم الناس لرب العالمين ينتظرون رب العزة للفصل بين العباد، والشمس قد دنت من رؤوس الخلائق والناس في عرق على قدر أعمالهم كما يذكر القرطبي وابن عبد البر رحمة الله عليهما.
في هذا الموقف العظيم يكرم الله جل في علاه ثلة من الأخيار بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله:
(إمام عادل)
عادل اسم فاعل من العدل وورد في رواية: “إمام عدل”.
والعدل من كان أكثر أحواله طاعة الله عز وجل كما قال بعضهم:
والعدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الغالب الصغائر
والمراد بالإمام العادل صاحب الولاية العظمى ويلحق به كل من ولي شيئا من أمور المسلمين وكان عدلا.
(وشاب نشأ في عبادة الله)
وتخصيص ذلك بمرحلة الشباب بحيث لم يقل عليه الصلاة والسلام ورجل نشأ لأن العبادة في الشباب أشد وأشق ولكثرة دواعي الشهوة وغلبتها وقوة الباعث على اتباع الهوى، وهذا يدل على عظم فضل من نشأ على الخير والاستقامة ولا يظنن ظانّ أن ذلك على سبيل الخيرة ففي الحديث الصحيح: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع فذكر منها: عن شبابه فيما أفناه”.
فهذه دعوة وحث من النبي صلى الله عليه وسلم للشباب خاصة إلى الإقبال على طاعة الله وعبادته منذ بدأ حياتهم، فالشباب موطن الرجاء والأمل وهم عدة المستقبل.
(ورجل قلبه معلق في المساجد)
أي: بالمساجد كما قال الكرماني رحمه الله، ولفظة معلق: كأن القلب هو ذاته كذلك في المسجد معلق كالقنديل، مما يدل على طول الملازمة بقلبه للطاعة في المسجد، وإن كان جسده خارجا عنه، كما يدل ذلك على شديد الحبّ له، وفسر بعض أهل العلم ذلك بانتظار أوقات الصلاة.
وفي هذا المقطع من الحديث دليل على فضل المساجد.
(ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)
والمقصود داما على المحبة الدينية ولم تقطع لمصلحة شخصية أو لعلة دنيوية حتى فرق بينهما الموت، مما يدل على الإخلاص في ذلك كما قيل:
ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل
أو المعنى اجتمعا على الحب في الله ولله حتى تفرقا وهما على ذلك.
وكل ذلك يدل على كمال الإيمان الذي يبعث على تذوق حلاوة الإسلام.
(ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)
ومعنى دعته: طلبته، أما ذات المنصب فهي ذات الحسب والنسب والجمال.
والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة وهذا ما جزم به القرطبي رحمه الله، ويحتمل أن تكون طلبته إلى الزواج فخاف أن يشتغل بالعبادة عنها، أو يشتغل عن العبادة بالافتتان بها.
والأول أظهر، كما يقول العيني في عمدة القاري وكما قال ابن حجر في فتحه: “لو كانت طلبته للزواج لجاء التصريح به”.
وجاء الكشف عن حالها وأنها ذات منصب وجمال لإظهار قوة الباعث على مواقعة ما أرادت ولنذرة حصول مثلها في حالها، ومع ذلك صبر هذا الرجل مما يدل على كمال رتبته وعلو مكانته حتى قال الإمام القرطبي رحمه الله: “إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله تعالى ومتين تقوى وحياء”.
وقول هذا الرجل إني أخاف الله الصحيح أنه قالها بلسانه زجرا لها عن الفاحشة كما قالها بقلبه زاجرا لنفسه.
(ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)
والصدقة الإحسان إلى الناس المحاوج الضعفاء الذين لا كسب لهم، ونكرت الصدقة لتشمل كل ما يتصدق به من قليل أو كثير، وحرف الفاء في قوله فأخفاها تفسيرية تفسر حالة المتصدق.
والظاهر أن ذلك يعم الصدقة المندوبة والمفروضة كما ذكره في الفتح، وإن كان الإمام النووي قد نقل في شرحه على مسلم عن العلماء أن إظهار الصدقة المفروضة أولى من إخفائها والراجح الأول لعموم قول الله تعالى: “إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” ويستثنى من ذلك إذا ظهرت المصلحة الشرعية الراجحة كما ذكره ابن كثير وغيره.
وذكر اليمين والشمال في الحديث مبالغة في الإخفاء والإسرار، وضرب المثل بهما لقرب اليمين من الشمال ومعنى ذلك على احتمالين:
أـ لو قدرت الشمال رجلا متيقظا ما علم صدقة اليمين.
ب- وقيل أن المراد من عن شماله من الناس.
وأكثر الروايات في البخاري وغيره بلفظ: “حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه” ووقع عند مسلم مقلوبا وهو وهمٌ والصواب اللفظ الأول كما قرر العلماء “لأن السنة المعهودة إعطاء الصدقة باليمين”.
(ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)
والمراد بالذكر ذكر القلب وهو من التذكر، وقيل ذكر الله باللسان.
وقوله: خاليا أي: منفردا في محل بعيدا عن الناس أو خاليا من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ من الناس.
ففاضت عيناه: وإسناد الفيض إلى العين مع أنها لا تفيض، لأن الفائض هو الدمع لكن عبر بذلك للمبالغة.
ذاق طعم الإيمان من ذكر الله ففاضت عيناه بالعبرات
تنبيه
كل ما ورد من صفات هؤلاء الأبرار في هذا الحديث يشمل الرجل والمرأة، ويستثنى من ذلك صاحب الولاية العظمى، والرجل الذي قلبه معلق في المساجد، لأن الأفضل للمرأة صلاتها في بيتها والله الموفق.